مجمع "فوغيري"... "سقف فوق الرؤوس" بـ 88 سنتاً

11 يناير 2022
فكرة عائلة فوغر لمساعدة المحتاجين (Getty)
+ الخط -

بعنوان "شبكة أمان اجتماعي وسقف فوق الرؤوس"، اختار رجل الأعمال الألماني ياكوب فوغر، المعروف باسم "الثري" باعتباره أحد الأشخاص الأكثر ثراءً في العالم في القرن السادس عشر، بناء مجمع "فوغيري" السكني لإيواء أبناء من طائفة الكاثوليك المسيحية عام 1526.
أدار فوغر، الذي يتحدر في الأصل من أسرة ثرية في مقاطعة أوغسبورغ جنوبي ألمانيا حالياً وبروسيا القيصرية سابقاً، أعمال منشآت مناجم وتعدين تبعد ساعة واحدة بالسيارة عن شمال غربي ميونيخ، وأراد أن يستخدم بعض ثروته لتقديم أفكار مختلفة عن "المساكن الشعبية" أو مشروع الإسكان الاجتماعي الذي عدّ الأول من نوعه عالمياً، مقارنة بما كان شائعا قبل نحو 500 عام.  
وارتكزت فكرة المشروع على مساعدة المحتاجين من أبناء طائفة الكاثوليك في ذلك الزمن. ومن تبقّى من عائلة فوغر والمتواجدون في هذه المساكن اليوم يستمرون في جمع أجرة السكن السنوي الرمزية والبالغة 88 سنتاً من عملة اليورو (99 سنتاً بالدولار) سنوياً.
يشمل المجمع السكني الذي يقطنه 500 شخص بيوتاً تتراوح بين 30 و140 متراً مربعاً، ملحقة بها حدائق صغيرة. ويُعرف باسم مشروع "فوغيري" الذي صمد قروناً ونجا من الدمار في الحرب العالمية الثانية حين أعيد إصلاح الأضرار التي لحقت به. وكانت الفكرة الأساسية لدى المؤسس فوغر في القرن السادس عشر تحويل مجمع "فوغيري" السكني إلى نموذج يمهد لإنشاء مشاريع سكنية مماثلة. 
وفيما تستمر عائلة فوغر على النهج ذاته للجدّ المؤسس، أشار ممثلوها في مراسم ذكرى تأسيس المجمع السكني البافاري زهيد الأجر إلى أنّهم ما زالوا يأملون في تبنّيه عالمياً. وتحدثوا عن إطلاق مشاريع مماثلة في سيراليون بالقارة الأفريقية، وليتوانيا إحدى دول البلطيق. 

وكان ألكسندر فوغر بابنهاوزن، الذي يواصل متابعة مشروع الجد الأكبر من خلال إشرافه على مؤسسة "فوغيري"، قال في مناسبة الذكرى الـ500 لتشييد المجمع، إنّ "فكرة المجمع لا تتعلق بإنقاذ العالم، بل بالتعرف إلى المجتمع المحلي ومشاكله والعمل على معالجتها". وفي أوغسبورغ يتفاخر الناس بصمود هذا المجمع الذي يقصده نحو 220 ألف زائر سنوياً. ومن أجل استمراره وصموده ألحق به المؤسس الأول أراضي زراعية، وغابات كبيرة، يستفاد منها بأسعار رمزية. 

حالة اجتماعية
وإذا كانت كلفة الأجرة السنوية الرمزية للمجمع لا تؤمّن بقية متطلبات العيش فيه، وبينها الحراسة الليلية الضرورية، كونه يتضمن أبواباً تغلق ليلاً، وأيضاً الصيانة المتوجبة، يساهم القاطنون فيه بمبلغ شهري يناهز 200 يورو (226 دولاراً) يغطي كلفة استخدام الكهرباء والتدفئة وبقية الخدمات.  
تنقل صحف ألمانية عن الحفيد ألكسندر قوله إن "ما يميز الإسكان المجتمعي الذي أسسه الجد الأكبر لعائلة فوغر، تذكيره بالحاجة إلى الوصول إلى مزيد من الناس من أجل حل المشاكل الاجتماعية المحلية. وهذا النوع من المساكن لا يتميز فقط بأنه ذات كلفة مادية منخفضة بالنسبة إلى الطبقات الاجتماعية المحتاجة، بل بأنه يشكل حالة اجتماعية تحتاجها معظم التجمعات السكنية الحديثة التي تنتشر في ألمانيا نفسها وبقية القارة الأوروبية، وأيضاً حول العالم".  

صمد المجمع قروناً وعايش الحروب (Getty)
صمد المجمع قروناً وعايش الحروب (Getty)

يتابع: "سرعة الحياة في بعض دول الرفاهية، وبينها النروج وإسبانيا، قد ينجم عنها عدم معرفة الجار بجاره، ومرور أسابيع وربما سنوات على موت أحدهم من دون أن يكتشف الجيران الأمر، قبل أن يبادر أحدهم إلى السؤال عن الشخص المتوفى، أو كسر طرف خارجي باب الشقة".  

التقارب مفتاح الأمان
لكنّ القاطنين في مجمع "فوغيري" لا يساورهم القلق من تسارع وتيرة الحياة، وبينهم أسر شابة وكبار في السن ومتقاعدون يعيشون في 140 منزلاً، ويعتبرون أنّ التقارب الاجتماعي بينهم يشكل أساساً لشعورهم بالأمان، وهو ما يعتبره ألكسندر ركيزة جعلت مجمع "فوغيري" فريداً من نوعه. 
يتناول السكان في مجمع "فوغيري" طعام الإفطار معاً، ويلتقون في ساحة المجمع التي تضم نافورة ماء، ويشربون القهوة خلال فترة ما بعد الظهر جماعياً، ويرتادون السينما معاً. ويستفيدون أيضاً من تقديم المجمع السكني فرصة لغير القادرين على تنظيم مناسبة اجتماعية عبر مشاركة المجموعة في تنظيمها. وتجعل كل هذه الأنشطة السكان لا يعيشون في عزلة، فلا يخشى أحدهم أن يتوفى من دون اكتشاف غيابه.
وما يميز المجمع السكني أن حراساً يغلقون أبوابه عند العاشرة مساء. ومن يحضر في وقت متأخر يدفع نحو نصف يورو (60 سنتاً بالدولار) كي يفتح الحراس الباب له. وهو رسم يساهم في تغطية مصاريف الحراسة.  
وتعتبر مسؤولة الاستقبال في "فوغيري"، دوريس هيرزوغ، أن "المجمع السكني الاجتماعي يمنح الناس الشعور بالأمان، ليس فقط على صعيد الكلفة المادية، بل أيضاً على الصعيد الاجتماعي". وتؤكد أنها تتلقى استفسارات يومية عن فرص انتقال أشخاص جدد إليه، وتشير إلى أن حوالى 80 شخصاً قد سجلوا على قائمة انتظار الحصول على سكن في المجمع.

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

رد الجميل
واللافت أنّه عندما أسس ياكوب فوغر قبل 500 سنة مجمعه ذا الأجر الزهيد كان التدين هو السمة الطاغية في القارة الأوروبية، وكان كلّ ما أراده هو صلاة قاطنيه 3 مرات وإطلاق دعوات له ولأسرته. وقد تميز المجمع في بدايته بطابعه الكاثوليكي، لكنّه يضم اليوم سكاناً من كلّ الأديان، فيما يبقى مقصد الطبقات الأكثر معاناة على الصعيدين الاجتماعي والمادي. 
أما رد الجميل اليوم لمؤسس المسكن الاجتماعي في "فوغيري" فلا يشمل الصلاة، رغم أنّ مكتب التأجير لا يزال يحافظ على عادة إعطاء مفتاح شقة يحتوي على صورة مرسومة لمؤسسه ياكوب للتذكير بأنّه صاحب الفكرة والمشروع المعمّر حتى هذا التاريخ، إذ بات يشمل مشاركة السكان في رعاية الحدائق الملحقة بالمجمع، والتطوع في توفير الحراسة الليلية، وبيع تذاكر لحوالي 220 ألف سائح يزورونه سنوياً من داخل البلاد وخارجها، والذين يتلقون إرشادات ومعلومات عن تاريخ البيوت التي صمدت في مشروع مستمر منذ مئات السنين، وعلى مر أجيال من أبناء العائلة المؤسسة للسكن الاجتماعي الأقدم حول أوروبا. والمجمع اليوم معلم تاريخي في ريف ميونيخ، تحديداً في أوغسبورغ.

المساهمون