كارثة ليبيا... القطاع الصحي يُنازع لإنقاذ الناجين

14 سبتمبر 2023
يتضاءل الأمل في العثور على ناجين (عصام عمران الفيتوري/ رويترز)
+ الخط -

كشفت كارثة السيول والفيضانات عن انهيار في المنظومة الصحية بمدينة درنة، بعدما توجهت إليها كل الأنظار منذ أولى ساعات نهار الاثنين. أُسعف المصابون إلى مستشفى الوحدة التعليمي الجامعي بالمدينة، ليكتشف الأهالي أن المستشفى لا تتوفر فيه أية إمكانيات في مثل هذه الظروف الاستثنائية. وتضم ثالث أكبر مدينة في الشرق الليبي ثلاثة مرافق صحية حكومية فقط، هي مستشفى الهريش (عبارة عن مجمّع عيادات حكومي)، ومستشفى الوحدة التعليمي الجامعي، ومستوصف شيحا. 
وتوقف مستشفى الهريش عن العمل منذ عام 2019 بسبب أعمال الصيانة. أما مستشفى الوحدة، فقد كان يعمل قبل حلول العاصفة بقدرة لا تزيد عن 10 في المائة، على الرغم من أنه المستشفى المركزي بالمدينة، ليبقى مستوصف شيحا المرفق الوحيد الذي لم يتوقف عن العمل على الرغم من صغر حجمه وإمكانياته، وفقاً للمسؤول بمكتب الصحة ببلدية درنة أشرف الحصادي. 
وتشكو المرافق الصحية في درنة من نقص الكوادر الطبية المتخصصة، وقد زادت الأزمة الحالية من حدة الأمور بعد تشتت الطواقم الطبية والطبية من جراء الفيضانات، بحسب الحصادي. ويقول: "كغيرهم من سكان المدينة، فإن البعض في عداد الموتى أو المفقودين، ومنهم من لا يزال تحت تأثير الصدمة ويبحث عن ذويه، فيما نزح آخرون إلى خارج المدينة بعدما فقدوا بيوتهم". 
وفي الوقت الحالي، تقتصر الطواقم الطبية العاملة في درنة على بعض أطباء الصحة العامة، وعدد من المتخصصين والممرضات. ويقول الحصادي إن عدد الأطباء لا يتجاوز الثمانية، بالإضافة إلى سبعة مساعدين. هذا العدد القليل أدى إلى انخراط عشرات المتطوعين للمساعدة في أعمال الإسعاف ونقل المصابين إلى المراكز الطبية خارج درنة". 
وبحسب شهادة عون بلحسن، وهو مسعف متطوع قدم من طبرق إلى درنة، فإن العمل حتى ليل أول من أمس الثلاثاء كان يقتصر من الناحية الصحية على تأكيد حالات الوفاة أو تقديم بعض الخدمات الصحية الأولية. ويشير إلى بذل عدد من الأطباء بمعونة متطوعين، محاولات لإعادة تأهيل مستشفى الوحدة في انتظار عودة الكهرباء التي يفاقم نقصها من مشاكل المستشفى العديدة، وخصوصاً تشغيل الأجهزة وغرف العمليات وثلاجات حفظ الأدوية والجثث. ويقول الحصادي: "كان المستشفى يعاني الاهتراء في أجزاء منه، وزاد الوضع سوءاً بعدما أصيب بالغارات الجوية خلال العمليات العسكرية التي شهدتها المدينة عام 2016. وعلى الرغم من أنه شهد بدء عمليات صيانة عام 2020، إلا أنها لم تكتمل وباتت أكثر أقسامه معطلة بسبب عدم اكتمال إعادة تأهيلها. وفي الواقع، لم تكن طاقة المستشفى تزيد عن 10 في المائة قبل الكارثة". ويقول بلحسن لـ "العربي الجديد": "غالبية غرف المستشفى وأسرّته متهالكة. والصالح منها، سواء الغرف أو الردهات، تحولت إلى أماكن لجمع الجثث، بعدما امتلأ مقر كلية التقنية الطبية المحاذي للمستشفى بالجثث". 

وحصل مستوصف شيحا على بعض اللوازم الطبية من الصيدليات الخاصة في انتظار وصول المزيد، سواء عبر الإغاثة الحكومية أو الدول التي هبت للمساعدة. ويعتمد سكان المدينة البالغ عددهم قرابة 300 ألف نسمة على العيادات الخاصة لعلاج المرضى، والصيدليات الخاصة لتأمين الأدوية. فالصيدليات المرفقة في مستشفى الوحدة ومستوصف شيحا خالية تماماً من أي دواء، كغيرها من المراكز الصحية الحكومية في سائر أنحاء البلاد، كما يقول أحد المتطوعين من المدينة مع فرع جهاز الإسعاف بدرنة، علي بن خيال. يضيف لـ"العربي الجديد": "أدركنا الحاجة الأساسية للمرافق الصحية الحكومية خلال هذه الأزمة، وأنه لا يمكن الاعتماد على القطاع الخاص في مثل هذه الأزمات لسببين: الأول أن العيادات الخاصة لا تقبل المصابين عادة إلا في حال وجود تأمين طبي أو ترك مبلغ مالي يغطي الجزء الأول من تكاليف العلاج على الأقل، والثاني هو صغر حجم العيادات الخاصة وعدم حيازتها على تجهيزات طبية مؤهلة للتعامل مع أعداد كبيرة كالتي خلفها الفيضان، فضلاً عن تضرر جزء كبير من العاملين وذويهم في هذه العيادات الخاصة. ويضاف إلى هذين السببين ترك أصحاب العيادات الخاصة عياداتهم والنزوح إلى خارج المدينة. هكذا، باتت العيادات الخاصة إما متضررة أو مقفلة". 


من جهة أخرى، يلفت الحصادي إلى أن انقطاع الطرقات المؤدية إلى درنة، باستثناء طريق واحدة مهددة بالانهيار، أدى إلى صعوبة إيصال الاحتياجات العاجلة ونقل المصابين إلى خارج المدينة. ويقول: "في الوقت الحالي، هناك جهود أهلية لترميم طريق التميمي ـ درنة المنفذ الشرقي للمدينة، الأمر الذي سيساهم في تخفيف المعاناة بشكل كبير. كما أن فرق انتشال الجثث الدولية التي دخلت المدينة أبلغتنا باستعدادات لنقل مصابي درنة الذين وصلوا إلى مراكز طبية في مناطق مجاورة إلى خارج البلاد". 
في هذا السياق، يقول المواطن محسن الجيباني، إنه اضطر إلى نقل ابن أخيه ووالدته إلى عيادة الشفاء في مدينة بنغازي لتلقي العلاج بجهده الخاص. ويوضح لـ "العربي الجديد": "قبل الوصول إلى بنغازي، كان الطريق الساحلي الذي يصل إلى بنغازي مليئاً بالمياه. نشرت رقم هاتفي على صفحتي الخاصة على فيسبوك في محاولة للحصول على مساعدة لأصل إلى أول عيادة خاصة بشكل سريع. ابن أخي أنقذته والدته التي لجأت إلى الطابق الأخير في عمارة بحي البحر، وقد أصيبا أثناء خروجهما من العمارة بعد تراجع منسوب المياه"، لافتاً إلى أنه وزوجة أخيه لا يزالان تحت تأثير الصدمة، على أمل العثور على الشقيق المفقود.

ليبيا (عبدالله محمد بونجا/ الأناضول)
عدد الضحايا إلى ارتفاع في درنة (عبدالله محمد بونجا/ الأناضول)

إلى ذلك، يتحدث بلحسن عن قلة مواد الإسعاف كأكياس الدم وأسطوانات الأكسجين والأقنعة والمطهرات والمضادات الحيوية والمعقمات، فضلاً عن بعض الحالات التي تتطلب تدخلاً خاصاً، موضحاً أن "سيدة كبيرة في السن تعاني فشلاً كلوياً جاءت إلى مستوصف شيحا تطلب المساعدة، لكن أحداً لم يكن يتجاوب معها. ولا نعلم ما حدث لها، والأرجح أنها وجدت من ينقلها إلى المراكز الطبية خارج المدينة". 
ويقول المتحدث الرسمي باسم جهاز الإسعاف والطوارئ الحكومي أسامة علي، إن جثثاً محملة في ثلاث شاحنات وصلت مساء الثلاثاء إلى مستشفى طبرق شرقاً، مشيراً إلى صعوبة تقدير الأعداد بسبب التركيز على جهود الإنقاذ. وفي وقت يؤكد خلال حديثه لـ "العربي الجديد" وصول فرق دولية متخصصة في انتشال الجثث إلى درنة، إلا أنه يوضح أنه "بعد مرور 48 ساعة على كارثة الفيضانات، تقلصت الآمال في العثور على ناجين تحت أنقاض المباني". 
وهنا يقول بن خيال: "على الرغم من أن هذا الخبر محزن للغاية، إلا أن ذلك قد يعني عدم تحميل مستشفيات المنطقة أكثر من طاقتها". ويشكو قلة الأكياس الخاصة بالجثث في درنة. وعلى الرغم من الجهود لتوفيرها، إلا أنها ما زالت غير كافية، ما دفع المسعفين إلى تغطية الجثث بما توفر من أقمشة وبطاطين، محذراً من خطورة ذلك وإمكانية انتشار أمراض وأوبئة في المنطقة.   
وفي مراكز تجميع الجثث في كلية التقنية الطبية ومستشفى الوحدة، هناك نقص في ثلاجات حفظ الجثث. ويقول بلحسن: "نقلت جثث ضحايا الجنسيات الأجنبية، لا سيما المصريين منهم، بعد التعرف عليهم إلى مستشفى طبرق. وعلى الرغم من أنه يعاني ما يعانيه، إلا أن مرافقه تتيح تبريد الجثث إلى حين أن تتسلمها دولهم أو تسمح بدفنهم في البلاد".


ونقلت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد محزنة لمئات الجثث الموضوعة إلى جانب الطرق في المدينة، ليتعرف إليهم الأهالي.   
في هذا الإطار، يقول بلحسن إن نسبة الجثث التي يتم التعرف عليها ليست كبيرة، مرجعاً الأمر إلى وفاة عائلات كاملة في المنطقة، عدا عن صعوبة وصول ذوي المفقودين من المناطق الأخرى بسبب انقطاع الطرقات. يضيف: "في البداية، اعتمد السبيل المعتاد في مثل هذه الظروف، وهو تصوير الجثث، مع أخذ عينة من الحمض النووي قبل الدفن. لكن الأعداد الكبيرة وتهشم الكثير من الجثث بسبب انهيار المنازل، وتحلل غالبيتها إما بسبب مياه البحر المالحة أو الطمي الذي عم المدينة أو تركها في الشمس، يصعب من فرص التعرف على هويات أصحابها".
وفي المقابر الواقعة عند أطراف المدينة والمناطق المجاورة، يدفن الضحايا جماعياً بسبب كثرة الأعداد وتحلل الجثث وضيق المساحات المتاحة للدفن بعدما غمرت غالبية أرجاء المنطقة بالمياه. 

وبعيداً عن درنة، وفي أكبر مدن الشرق الليبي وعاصمته بنغازي، يكشف أحد المتطوعين محمود أبوحلاق، عن معضلة أخرى يرى أنها تعرقل جهود الإنقاذ والإغاثة، وهي تأثير الجانب القبلي على أسبقية تلقي كل أنواع المساعدات. ويوضح لـ "العربي الجديد": "كل المساعدات تصل أولاً إلى بنغازي، ومن هناك توزع على المناطق المنكوبة. لكن ذلك لا يتم بأولوية المناطق الأكثر حاجة"، مضيفاً "المسؤولون هناك يقومون بتوجيه المساعدات أولاً إلى مناطق قبائلهم في تجاهل كامل للأولويات الطبية والإنسانية"، الأمر الذي قد يفسر سبب عدم وصول المساعدات العاجلة والقروية إلى مدن متضررة مثل درنة وسوسة التي لا تنتمي إلى حواضن قبلية كبيرة. 
وفي بنغازي، تضاربت تصريحات المسؤولين بشأن سدي المدينة الشرقي والغربي. ففي وقت حذر فيه المتحدث الرسمي باسم قيادة قوات حفتر، أحمد المساري، أهل منطقة برسس (شرق بنغازي)، من انهيار وشيك لسد وادي زارا المطل على المنطقة، لافتاً إلى أن هذه المخاطر تنسحب على سد وادي القطارة غرب المدينة، عاد لينفي هذه التحذيرات.
يشار إلى أن وكيل وزارة الصحة بحكومة الوحدة الليبية قال إن عدد القتلى من جراء الإعصار دانيال ارتفع إلى 6 آلاف قتيل وآلاف المفقودين. في وقت قالت فيه المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، إن ما لا يقل عن 30 ألف شخص شرّدوا بعدما اجتاحت الفيضانات مدينة درنة.

المساهمون