بالتزامن مع كل التحديات المرتبطة بالعدوان الإسرائيلي، ينخر البرد القارس أجساد سكان غزة التي أنهكها النزوح والجوع، وسط نقص كبير في الأغطية والملابس الشتوية، وارتفاع أسعارها.
يعيش مئات آلاف النازحين في قطاع غزة حالة متكررة من القلق مع اقتراب فصل الشتاء، فالغالبية تؤويهم خيام ممزقة أو مهترئة، ويعانون تفاقم الأوضاع المأساوية في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل، وهم يجتهدون لتقوية خيامهم وتغطيتها بـ"النايلون" بهدف حمايتهم من شدة الرياح ومياه الأمطار رغم عدم توفر المواد اللازمة لتقوية الخيام، أو غلاء أسعارها.
ويؤدي التعرض للبرد الشديد إلى انتشار الأمراض الصدرية والتنفسية بين النازحين، بخاصة بين الأطفال وكبار السن، مع نقص حاد في جميع أصناف الأدوية، خاصة المضادات الحيوية وأدوية علاج الأنفلونزا.
على شاطئ بحر مدينة خانيونس، يعيش أبو حسن إعلاو في صراع دائم مع أمواج البحر التي بدأت تشكل خطراً على حياة آلاف النازحين المقيمين على شاطئ البحر بسبب عدم وجود مكان في منطقة المواصي المكتظة، وفي الوقت الحالي يستعد إعلاو لمواجهة مياه الأمطار والبحر معاً، وهو يبحث في الوقت نفسه عن مكان للانتقال إلى أطراف المواصي، رغم أنها تعد مناطق تماس مع جيش الاحتلال.
ينهمك إعلاو يومياً في إنشاء سواتر ترابية لمواجهة أمواج البحر، ورغم ذلك تأثرت خيمته بالمنخفض الجوي في سبتمبر/ أيلول الماضي، وغرقت بمياه البحر التي جرفت أوتادها الحديدية. يقول لـ "العربي الجديد": "لا نعرف ماذا سنفعل خلال الشتاء الذي يقترب، سنغرق بكل تأكيد، كما أنه لا يوجد لدينا ملابس شتوية، والبرد على شاطئ البحر يكون شديداً بعد منتصف الليل. أولادي يشعرون بالبرد كل ليلة، لكني لا أملك شيئاً لتدفئتهم".
تتشابه مأساة مئات آلاف النازحين في غزة خلال فصل الشتاء
وأدى طول فترة الحرب، وتعاقب فصلي الشتاء والصيف إلى اهتراء الخيام وتمزقها، لكن استبدال كل تلك الخيام يحتاج إلى توفير عشرات الآلاف من الخيام، ومثلها من الشوادر لحماية النازحين من الأمطار، فضلاً عن توفير مساعدات إنسانية، وملابس شتوية، لكن كل ذلك غير ممكن بسبب إغلاق المعابر.
تعيش آيات حمدان في خيمة من القماش المهترئ المليء بالثقوب والرقع، ما يجعل غرق خيمتها أمراً حتمياً، وهي تتابع أنباء أي منخفض جوي يضرب القطاع، إذ غرقت خيمتها وأمتعتها في المنخفض السابق، واستغرقت عدة أيام حتى استطاعت تجفيفها بعد توقف المطر، إذ لا تملك شوادر أو نايلوناً للحماية من الأمطار.
تقول حمدان لـ "العربي الجديد": "جئت إلى مواصي رفح رغم خطورتها بسبب الوضع الصعب على شاطئ بحر خانيونس، بعدما سحبت مياه البحر خيمتنا، حتى إن المياه كادت تبتلع طفلتي الصغيرة. خيمتي مسقوفة بقماش الستائر الخفيفة، وهي مليئة بالرقع، ولا تزيد مساحتها عن ثلاثة أمتار مربعة، ما يجعلها ضعيفة أمام الأمطار وحرارة الشمس، وبسبب وضعنا المأساوي لم أستطع فرش أرضية الخيمة، وبالتالي تلتصق الرمال بأجسادنا وملابسنا وأمتعتنا. الوضع صعب للغاية، وأصيب طفلي بالربو بسبب شدة البرد، ولولا أن أختي قامت بشراء ملابس شتوية مستعملة، ووزعت قطعة على كل واحد من أطفالي الأربعة لواجهنا الشتاء بملابس صيفية".
قبل أسبوع واحد، كشفت زوبعة قوية تأثر بها قطاع غزة، واستمرت لثلاثة أيام، جانباً مؤلماً من مأساة النازحين، إذ أوشكت الرياح على اقتلاع الكثير من الخيام، وأدت إلى تكسر أخشاب العشرات منها، كما أثارت الخوف في قلوب الأطفال، إذ ذكرتهم بالأصوات التي تسبق سقوط الصواريخ الإسرائيلية.
يقول إبراهيم الطويل الذي يسكن خيمة في منطقة مواصي خانيونس صنعها من الشوادر والأخشاب والقماش لـ "العربي الجديد": "حمدت الله أن الرياح لم تقتلع خيمتي، فمن شدتها كانت الأخشاب التي تحمل الخيمة تطير لأنه لا يوجد شوادر أو أخشاب كافية كي نستطيع تثبيت الخيمة جيداً، إذ يبلغ سعر قطعة الخشب بطول أربعة أمتار فقط 70 شيكلاً (19 دولاراً)، وقد أذابت حرارة شمس الصيف أخشاب الخيام، كما أن كثرة النزوح وإعادة فك وتركيب الخيام أكثر من مرة أدى إلى تمزقها. تجهيزاتنا لفصل الشتاء هي نفسها تجهيزات بقية الفصول، فلا نملك أي إمكانيات مادية لشراء الخيام، والخيمة الواحدة بات سعرها ألف دولار أو أكثر".
لم تكن حرارة فصل الصيف وطول مدة النزوح، السببين الوحيدين في اهتراء الخيام وتمزقها، إذ سبّبت شظايا صواريخ الاحتلال خلال عشرات المجازر التي ارتكبها في منطقة المواصي، والمصنفة "منطقة إنسانية"، تمزُّقَ خيام مئات النازحين أو احتراقها. ومن بينها خيمة آية حسونة التي طاولها قصف إسرائيلي في 9 أغسطس/آب الماضي، واستشهد فيه زوجها عبد الله السوسي (33 سنة) وطفلاها حمزة (4 سنوات) ورغد (سنتان).
نزحت عائلة حسونة من مدينة غزة إلى محافظة رفح مع بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وأمضوا الشتاء الماضي في خيمة بجوار منزل أقارب لهم، واستعانوا بأغطيتهم الشتوية، وفي شهر مايو/أيار الماضي، مع اجتياح الاحتلال لمحافظة رفح، نزحت العائلة إلى منطقة مواصي خانيونس. لكنها تعيش الآن وحيدة من دون زوج ولا أطفال.
تقول لـ "العربي الجديد": "عندما نزحنا لم يكن لدينا مفارش أو أغطية شتوية، وكان زوجي قبل استشهاده يخشى من قدوم فصل الشتاء، ويعبر عن قلقه على أطفالنا. واجهت المنخفض الجوي الأخير بمفردي، وعشت ما كان يخشاه زوجي، لكنه لم يكن موجوداً لمساعدتي على التصدي للبرد، أو حماية الخيمة. تبلل الفراش، ومن حسن حظنا أن الأمطار لم تستمر لفترة طويلة، وقمت بمساعدة الأقارب بوضع نايلون خفيف، وحالياً أبحث عن أغطية، لكن المتوفر في الأسواق أسعاره مرتفعة".
وتشتد البرودة خلال الليل في منطقة المواصي ذات الطبيعة الصحراوية، ما يزيد من معاناة النازحين، وتكون الرياح شديدة، ما يهدد الخيام التي باتت تحتاج في كل يوم تقريباً إلى إعادة تثبيتها وشد أوتادها، كما مزقت الرياح "النايلون" الذي يغطي بعض الخيام، والذي كان أصحابها يعتمدون عليه في التصدي لأمطار الشتاء، وتجديده مكلف ومرهق، خصوصاً أن الغالبية لا يملكون المال، وليس لديهم أية مصادر دخل.
تعيش المسنة الفلسطينية أم مازن (74 سنة) في خيمة لا تزيد مساحتها عن ثلاثة أمتار مربعة، وهي ترتدي كل ما لديها من ملابس خلال الليل، لكن ذلك لا يشعرها بالدفء الكافي. وتقول لـ"العربي الجديد": "حالنا ويل، إذ لا نملك تجهيز أنفسنا للشتاء، وما لدينا من أغطية استعرناه من الأقارب. خلال الأمطار الأخيرة غرقت خيمتي، وكوني مريضة وكبيرة في السن فإن حياة الخيام لا تناسبني، وهي جحيم بكل ما للكلمة من معنى، سواء في استعمال دورة المياه، أو إعداد الطعام، ناهيك عن مواجهة الشتاء".
ورغم أن النازحين ينتشرون في مناطق واسعة ممتلئة بالخيام من وسط القطاع حتى جنوبه، لكن معاناتهم تبدو واحدة في فصل الشتاء، وهم يتشاركون المأساة نفسها. نزحت الشابة هداية عصمت حسنين مع عائلتها في مايو/ أيار الماضي، إلى مدينة دير البلح (وسط)، وقد أصبح لديها دراية باحتياجات كل فصل بعد تجربة العيش في الخيام على مدار 11 شهراً تعاقبت عليها فيها كل فصول السنة.
تقول حسنين لـ "العربي الجديد": "بدأت تغطية نفسي بحرامين من شدة البرد لأن الخيمة لا تحمي من أي شيء، والمشكلة أنني لا أملك غير هذين الحرامين، في حين أننا عائلة كبيرة مكونة من ست فتيات وأبي وأمي وأخي وأولاد أخي الشهيد، وبسبب الضيق نملأ مساحة الخيمة أثناء النوم، وعند بابها ينام أخي، ونمشي فوقه تقريباً عندما نريد الخروج. بسبب ارتفاع أسعار الأغطية يصعب على العائلة شراء عدد كاف لكل الأفراد، ولأننا عائلة كبيرة يعتبر توفير الأغطية معاناة إضافية".
ونتيجة تجربة العائلة السابقة في الخيمة خلال فصل الشتاء الماضي، اشترت كمية من النايلون، ثم لم تغرق الخيمة خلال سقوط الأمطار، لكن حسنين وعائلتها يدركون أن "الخيمة لا تؤوي"، وتقول: "هذه الجملة التي يعرفها الجميع طالما أنهم نازحون، فستظل تشعر بالبرد مهما فعلت. رغم أنني كنت أحب الشتاء، وأعد نفسي كائناً شتوياً، لكن الأمر تغير خلال أشهر النزوح، وأصبح الشتاء يمثل المعاناة، فما دمت نازحاً لا يمكن أن يكون الشتاء جيداً".