ألوف مؤلفة من تلاميذ المدارس لن يعودوا إلى صفوفهم، لا لكسل، بل لأنهم فقدوا أرواحهم خلال المذبحة التي شهدها قطاع غزة وباتوا جثثاً ملفوفة بقماش أبيض مستقرة في قبور جماعية تشغل حيزاً من شارع، أو في مساحة ضمن حرم مستشفى، أو في بؤرة أهملها البناء، تضم أجسادهم الغضة، أو ما تبقى منها بعد أن مزقتها شظايا الحديد وعصف الانفجار.
تركوا وراءهم أهلهم وكتبهم ودفاترهم وأقلامهم الملونة، ورحلوا إلى بعيد لا نراه، لا نعرف من ذلك إلا أنه ما يعبر عن الحقد الذي يختزنه بنيامين نتنياهو وجو بايدن، وهما يقصفان بأصناف الأسلحة والذخائر من دون تردد منذ أيام طويلة.
ألوف مؤلفة أيضاً باتوا من دون أطراف، وعاجزين عن تقليب صفحات كتاب أو دفتر، أو تلبية رغبات المعلمين والمعلمات في كتابة فرض منزلي، أو الركض في ملعب المدرسة بعد يوم دراسي عادي.
لم يعد الأطفال الذين نجوا بعد هذه المحنة أطفالاً كما كانوا، فالندوب التي يحملونها أكبر من أن تخفيها صدورهم الصغيرة، والمدارس التي أقاموا فيها بعد أن هربوا من بيوتهم المقصوفة لم تعد مدارس أيضاً، وتحولت لبعض الوقت إلى منازل تقاسموا غرفها مع جيرانهم الذين تقاطروا على الاحتماء بعلم وكالة "أونروا"، أو بالأصح الأمم المتحدة، لكنها لم تمثل لهم الحماية، فمزقت القذائف نوافذها، وألواح الحائط ورسوم الجدران، حتى إن بعض ملاعبها أصبحت قطع أرض مفرزة للمقابر. هنا يرقد فادي ورامي ومحمد، وقربهما فاطمة وزهراء وهيام.
لا مدرسة بعد اليوم لضحايا الانتقام العنصري. ينطبق ذلك على مدن غزة وخانيونس ودير البلح، وعلى العديد من المخيمات. لا مدرسة تحمل علم أونروا، أو علم فلسطين، أو أي علم آخر. راية الموت ترفرف وحدها في المكان، وتحيل صخب الحضور وزقزقة الصغار صمتاً مرعباً. وعلى الفلسطيني الصغير الجائع الذي يعاني العطش والمرض، وفقدان أمه أو أبيه، أو أطرافه، وفقدان ثيابه التي تركها في البيت مع شنطة كتبه، أن يرضى بما قرره له رب الحرب من مآس وويلات وجراح.
كانت المدرسة من لزوميات الفلسطيني، ويرى أنها يمكن أن تقوده إلى مستقبل مختلف بعيد عن ذاكرته المثقوبة بالرصاص والمنافي والخيام والمفاتيح القديمة وذاكرة الجدات والأجداد. سنحت الفرصة لتحقيق حلم الحياة بتغيير الأحوال من خلال التعليم جِسرَ عبور للخروج من أطياف الهزائم.
أيقن الفلسطيني، سواء كان في غزة أو القدس والضفة، أو في الداخل، أن عليه أن ينجح في مدرسته وجامعته، وأن يحصل على حقه في رواية سرديته وأسرار صموده بلسانه، وعليه أن يسعى للوصول إلى ذلك من خلال الكتاب والدفتر والقصة والرواية، تماماً مثل قُوته الذي ينتزعه بعلمه ومعارفه وعرق جبينه.
كان الصهاينة بموروثهم العنصري يدركون ما يتردد في أذهان هؤلاء من طموح إلى تثبيت تجذرهم في الأرض وحماية هويتهم وما اختزنوه من روايات أهلهم الغائبين، وسيلة تعبّر عن قرار الصمود، وأداة لمقاومة المحتل، وإرغامه على الاعتراف بوجود الفلسطيني نقيضاً للصهيوني الذي لا يرى من فلسطين إلا أرضاً دون شعب منحها الاستعمار لليهودي التائه الذي ألقته بواخر الغرب على سواحل بلادنا.
الآن يشهر هذا الصهيوني سلاحه، ويعمل على تدمير المدرسة والجامعة، وحرمان من بقوا على هذه الأرض من حقهم في التعليم، والبقاء.
(باحث وأكاديمي)