استمع إلى الملخص
- إدارة إدلب: تدير هيئة تحرير الشام محافظة إدلب عبر حكومة الإنقاذ، وتعتمد في تمويلها على الزكاة والضرائب، وتواجه انتقادات بسبب سياساتها الضريبية وقمعها للمعارضين.
- المعارضة والتحرير: شهدت إدلب احتجاجات ضد هيئة تحرير الشام، وحققت المعارضة انتصارات عسكرية في عملية "ردع العدوان"، مما أثار الفرح بين السكان وأملهم في مستقبل أفضل.
لا يفارق مشهد الدمار وآثار الجريمة، العابرين طريق ريف دمشق نحو المحافظات الشمالية والغربية في سورية؛ من القابون، الممسوحة بالكامل، مرورًا بحرستا ودوما إلى تلبيسة والرستن ومعرين والغوطة وخان شيخون وجسر الشغور، الشاهدة على جرائم نظام عائلة الأسد بمختلف مراحلها، وبقية مدن إدلب فحلب؛ أبنية من طوابق معدودة تترنّح من أثر القصف والنهب. بعضُ المدن والبلدات المدمّرة مهجورٌة بالكامل. تلتقط دلائل النهب والتعفيش من الأبنية الخالية من كلّ شيء؛ لا أبواب أو نوافذ أو أثاث، فقط بقايا خرسانة حطّمها المعفّشون لاستخراج الحديد وبيعه. ومن أحوال المنازل والأبنية المدمّرة جزئيًّا، يسهل التمييز بين نوعية القصف؛ فإذا كانت بلا أسقف أو عرجاء نتيجة سقوط بعض الأعمدة أو الحيطان فيها، نكون أمام قصف للنظام. أمّا إذا كانت المخلّفات بقيّة حُطام شامل، فأنت أمام قصف روسي جوي.
على مشارف ما يُعرف بـ"المُحرّر" سابقًا، تظهر للرائي سواتر ترابية حمراء مترامية الأطراف بعلوّ مترين أو ثلاثة، كانت تفصل بين المناطق؛ تلك للنظام وتيك لفصائل المعارضة. بين المنطقتين، مساحات شاسعة خالية من السكّان، كانت مناطق عسكرية. تدلّنا حقول الزيتون المتدرّجة على مدّ النظر، على أبواب محافظة إدلب.
ملامح حكم متواضع في إدلب
عرفت محافظة إدلب احتجاجات الثورة السورية في بداياتها السلمية، ثم انطلقت منها الرصاصات الأولى (عند جسر الشغور في يونيو/حزيران 2011). ومن ريفها الجنوبي، تأسّس أوّل تشكيل عسكري لمقاتلة النظام. وفيها ولُدت فصائل مسلّحة لا تُحصى، منها ما صعد وهبط، ثمّ اندثر. وكانت مقصدًا للمعارضين للنظام من مختلف المحافظات، وملجأً للنازحين، إلى أن ارتفع عدد سكّانها من 165 ألفًا في 2011 إلى خمسة ملايين وأكثر اليوم. وبعد 14 عامًا، شقّ مقاتلون فيها طريقهم نحو دمشق، وجلس قائدهم في قصر الشعب، لينقلوا معهم تجربة حكم متواضعة في إدارة شؤون المحافظة.
يظهر اختلافٌ معيشي واضح بين المحافظة ومناطق سورية أخرى، من خلال معاينة أحوال الطرق والبنى التحتية والمنازل والأسواق التجارية والمدن الصناعية، وتوفّر السلع والخدمات الأساسية من كهرباء وإنترنت وتدفئة ووقود، والاكتظاظ الذي يضجّ بالحياة.
تُدير هيئة التحرير الشام محافظة إدلب، عسكريًّا وأمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. وتعتمد في ذلك على عدّة أذرع. ذراع سياسية/إدارية تتمثل بحكومة الإنقاذ بعمرها القصير (تشكّلت عام 2017) ووزاراتها الإحدى عشرة والمجلس الاقتصادي التابع لها، إضافة إلى بعض المديريات التي تتولّى تسيير أمور الناس اليومية. مع انتقالها إلى دمشق لإدارة المرحلة المؤقتة، تحوّلت وزارات حكومة إدلب إلى مديريات.
على المستوى الأمني والعسكري والاستخباري، يمكن التمييز بين ثلاث أذرع للهيئة؛ العسكرية وتشمل المقاتلين، ومن قوّاتها الضاربة يُحكى بين الناس هنا عن عصائب الحمر ووحدة النمر. وهناك ذراع شرطية تتبع وزارة الداخلية، وتتولّى الأمن الأقلّ خطورة. أمّا الذراع الأخطر، فهي جهاز الأمن العام، التي تتولّى قضايا "داعش" والجريمة المنظمة والمخدرات، وتُنسب إليها الانتهاكات ضدّ المتظاهرين، بحسب ما أخبرنا مشاركون في الاحتجاجات، وقد أُلحق هذا الجهاز أخيرًا بوزارة الداخلية بعد ضغط الاحتجاجات.
تعتمد المؤسسات الخدمية في المناطق المحرّرة سابقًا على المساعدات الدولية بشكل شبه كامل. وتفكّ الهيئة ارتباطها المباشر بها، كي لا تُقطع عنها المساعدات بسبب العقوبات المفروضة على الأولى. أمّا بالنسبة لتمويل حكم الهيئة في إدلب، عسكريًّا واقتصاديًّا، فهو يأتي عن طريق "الزكاة" (الهيئة العامة للزكاة)، والتبرّعات (كما جاء مرّة على لسان أحمد الشرع). وهذا المصدر الأخير يفتح الباب أمام تمويل خارجي غير معلوم. بالنسبة للزكاة، تُفرض حصة على محصول الزيتون، وحصة على القمح، وعلى أرباح المحال التجارية، وهكذا. وهذه تُحسب وفق الشريعة الإسلامية (2.5% من قيمة الإنتاج)، وإذا حسبناها، نلاحظ أنّها تتقاطع إلى حدّ ما مع الضريبة التصاعدية، لكن مع نسبة ثابتة، ترتفع مع ارتفاع قيمة الثروة أو المحصول. هناك نوع آخر من التمويل يأتي عن طريق الضرائب، التي تُفرض على المعابر، والنظافة والكهرباء والمياه، وتُضاف إلى قيمة الفاتورة الأساسية لهذه الخدمات، التي تتولّاها شركات خاصة ترتبط بالهيئة. التحصيل الضريبي بشكله المباشر أو غير المباشر، واجه انتقادات محلّية، ويتحدّث عنه معارضو الحكم بوصفه نوعًا من الإتاوات أو التحصيل القهري للأموال.
تجربة المعارضة والسجون السرّية
إذا أردنا أن نخمّن طرق السلطة الجديدة في التعامل مع معارضيها، لا بدّ من وقفة مع ما يُثار حول سجونها وتظاهرات إدلب الأخيرة ضدّ حكم هيئة تحرير الشام. بدأت التظاهرات مع بدايات عام 2024 (أواخر فبراير/شباط)، ولم تهدأ إلّا مع انطلاق معركة "ردع العدوان". طلّت في البداية من إدلب المدينة، وبنّش وسرمدا، التي شهد دوّارها أوّل صيحة ضدّ حكم أبو محمد الجولاني، قبل أن تتمدّد إلى مدن وبلدات أخرى في المحافظة. وحسب ما يُفهم من معارضين للهيئة في المحافظة، شاركوا في التظاهرات، فإنّ الهدوء الحالي بمثابة هدنة فرضتها تطوّرات المرحلة، وحدث التحرير الكبير، أكثر منه حلّ دائمٌ لأزمتهم مع السلطة.
إذا أردنا أن نخمّن طرق السلطة الجديدة في التعامل مع معارضيها، لا بدّ من وقفة مع ما يُثار حول سجونها وتظاهرات إدلب الأخيرة ضدّ حكم هيئة تحرير الشام
رامي عبد الحق، فنانٌ تشكيلي سوري يقيم في إدلب، تصدّر تظاهراتها، وعرف سجونها مرّتين؛ في 2018 و2024. يحدّثنا عن تجربة المعارضة والسجن في ظلّ حكم "هيئة التحرير". يشير إلى أساليب أمنية اعتمدتها الهيئة مع المتظاهرين، مثل محاصرتهم بمصفّحات الأمن العام، وتصويرهم، واختراقهم عبر دسّ عناصر أمنية لافتعال الشغب، إضافة إلى تشويه سمعتهم. وجهة نظر مختلفة، يطرحها مؤيّد للتظاهرات في بداياتها. يقول إنّ لا عائبة في مطالب الاحتجاجات، لكن لاحقًا تحوّلت نحو الشغب، بعد اختراقها من حزب التحرير المتشدّد، والذي يدعو إلى إنشاء دولة الخلافة الإسلامية.
بالنسبة لملف السجون السرّية، فلا مكان محدّد معروف يسمح لنا برصدها أو التحقّق منها على الأرض. يذكر عبد الحق أنّه حين يُفتضح أمر أحد هذه السجون، يُنقل إلى مكان آخر، كما حصل مع سجني شاهين في منطقة حارم (حيث سُجن هو أوّل مرّة) وعُقاب. ويشير إلى سجن آخر لكن غير سرّي، يُعتقل فيه سجناء سياسيون ويسمّى 107 في سرمدا. لا يستبعد وجود سجون سرّية في قبو تحت الأرض داخل مباني المقرّات الأمنية والعسكرية. وحين سألناه عن مكان سجنه الثاني، وسبب وصفه سرّيًّا، أكّد أنّه نُقل إليه معصّب العينين ومكبّلًا، فلم يعرف مكانه. وأثناء اقتياده للزنزانة الانفرادية والتحقيق معه كان إمّا معصّب العينين، أو أنّ المحققين ملثمون. سألوه في التحقيق عن التظاهرات و"المحرّضين عليها في المدن، والمسؤولين عنها، ونبشوا في هاتفه"، قبل أن ينتقلوا إلى أسئلة عامة حول رأيه في حكم الهيئة والأخطاء التي ترتكبها، محاولين استقطابه، كما يقول. لم يذكر لنا تعرّضه للتعذيب، لكنّه يشير إلى أساليب تعذيب ضربًا وبالكهرباء كانت تُمارس هناك.
إضافة إلى السجون السرّية وقمع التظاهرات، تُثار مسألة المقاتلين الأجانب في الهيئة وغيرها من الفصائل المسلّحة. وملفّ الدفاع فيها جاهزٌ: "هؤلاء تركوا بلادهم وقاتلوا معنا؛ وهم مقاتلون في مراكز غير قيادية"، كما يقول الشرع نفسه، وهي رواية يردّدها أنصاره وبعض خصومه "الناعمين". يقول مدير مستشفى في إدلب، إنّ هؤلاء المقاتلين صاروا جزءًا من الحالة السورية، أمضوا سنوات طويلة معنا، أسّسوا منزلًا وعائلة وحياة، وفي النهاية سيحصلون على الجنسية (عيّنت الإدارة المؤقتة قبل أيام مقاتلين من الفصائل في مواقع قيادية، وكان من ضمن هؤلاء أجانب من ألبانيا والأردن وطاجكستان وتركيا والصين).
قائد "المُحرّر" كان الجولاني؛ بعد التحرير صار أحمد الشرع وصفته الرسمية "قائد تحرير سورية"، بحسب ما يؤكّد مسؤول في العلاقات العامة في الحكومة الجديدة بدمشق. لا يلقى الجولاني-أحمد الشرع إجماعًا في إدلب؛ فالبعض، مثل عبد الحق، يرى فيه شخصية براغماتية إلى حدّ الاستفزاز، محبًّا للسلطة، إقصائيًّا، لا يتحمّل الخصوم، ولهذا لا نرى منافسين له أو "رجلًا ثانيًا" على الأقل. آخرون يعارضون بشراسة ممارسات الهيئة التي يتزعّمها، لكنهم يبدون انفتاحًا على الشخصية التي لبسها محرّرًا إلى دمشق؛ هؤلاء "ضدّ الجولاني، مع الشرع". أمّا مؤيّدوه، فيكرّرون خطاباته، بلا أحرف زائدة أو أفعال ناقصة: "الأولوية الآن لبناء البلد. التظاهر حقّ، لكن ضمن القانون ودون عنف أو شغب".
الفوعة وأخواتها
من بنّش، بطلة الاحتجاجات بين مدن إدلب، ندخل إلى الفوعة. بلدة قديمة فقيرة يظهر البؤس على محيّاها، تحتضن بيوتًا قديمة، تتوسّطها شوارع ضيّقة بأحوال مزرية. قبل الثورة، كان يسكنها أكثر من 11 ألف نسمة، غالبيتهم من الطائفة الشيعية. أمّا اليوم، فيسكن فيها أهالٍ من قرى وبلدات هجّرها النظام بعد الثورة مثل مناطق ريف دمشق التي تسكنها غالبية من الطائفة السنّية خصوصًا الزبداني ومضايا. حين كنّا في الشام، علمنا من أهالٍ هُجّروا من بلداتهم وسَكَنت منازلهم عائلات مقاتلين في مليشيات إيران أو حزب الله، أنّهم عادوا إليها، وبعض هؤلاء من الزبداني، كما عاد أهالٍ هُجّروا من القصير في حمص، فيما فرّ مَن احتلوا أرضهم فيها. فهل يعود أهل الفوعة إليها؟ حين باغتنا أهالٍ في بنّش بهذا السؤال، جاء ردّهم تلقائيًّا بـ"لا حاسمة قاطعة". بين البلدتين دمٌ وثأرٌ وجرائم بشعة. وبعد سؤال وردّ، عدلوا عن قرارهم: فلننتظر عامًا حتى تهدأ النفوس، وسنرى.
خلال فترة الثورة، كانت الفوعة معقلًا للنظام، وفيها تمترست المليشيات الطائفية الداعمة لها وبينها مقاتلون لحزب الله. ومنها كانت تنطلق القذائف لقصف بنّش والبلدات المجاورة. بعدها، صارت هدفًا لفصائل المعارضة مع كفريا القريبة ذات الغالبية الشيعية أيضًا، حوصرت البلدتان وقُصفتا إلى أن انتهى القتال بعملية ترانسفير طائفي للفوعة وكفريا مقابل مضايا والزبداني.
حالُ الفوعة، حال المناطق المختلطة التي وقعت فيها اشتباكات طائفية؛ والتي يصعب تخيّل مستقبل آمن لسورية بلا برنامج مصالحة شامل يُعيد المهجّرين لبلداتهم ويعزّز العيش المختلط؛ وأهل مكّة أدرى بشعابها.
مشوار الحريّة من إدلب إلى دمشق كما يرويه مقاتلوها
لن تطيب جولتنا باتجاه المناطق المحرّرة سابقًا، إلّا بعد الجلوس مع مقاتلين ممّن أسقطوا الطاغية خلال 11 يومًا. تحكي لنا مجموعة منهم شاركت في عملية "ردع العدوان" من إدلب حتى دمشق، عن مشوار الحرّية؛ وأوّل "الفتح" وآخره: ساعة الانطلاق كانت السادسة صباحًا من يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، من المناطق المحرّرة شرق إدلب نحو غرب حلب، حيث اتجهت الوحدات نحو عدّة نقاط وعلى نحو متزامن. وهناك، خاض المقاتلون معارك ضارية مع قوّات النظام، على وقع غارات روسية متواصلة. وكانت أوّل منطقة تتحرّر، بلدة الشيخ عقيل غرب حلب، وبعدها واصلت القوّات معاركها مستعيدة بلدة تلو الأخرى.
يروي مسؤول غرفة عمليات في فيلق الشام عن مسار تحرّك قوّاته. أولى معاركهم كانت في سراقب، تقدّموا بعدها نحو خان شيخون دون مقاومة، عاودوا استعداداتهم العسكرية واستأنفوا تقدّمهم نحو أطراف حماة، حيث جرت معارك طاحنة لثلاثة أيام خسروا فيها كثيرًا من القتلى. وحين وصلوا إلى بلدة العشارنة (حماة)، جاءتهم الأوامر عند الثالثة صباحًا، "سيجري تسليم البلدة بلا قتال"، وهو ما حصل. دخلوا البلدة في الخامسة صباحًا، وحينها وصل إليهم خبر أنّ جيش النظام انهار في حمص بعد اشتباكات مع فيالق المعارضة، ووجب التحرّك فورًا. في هذا الوقت كانت الغارات الروسية التي رافقتهم في الأيّام الأولى للمعركة، قد توقّفت تمامًا؛ الغارة الأخيرة كانت من نصيب جسر الرستن، بين حمص وحماة. من المفارقات، كما يقول لنا أحدهم، إنّ الغارات الروسية لم تستهدف المقاتلين أثناء تقدّمهم في المحافظات والمدن وتحريرها، ومعظم أهدافها كانت مدنية. على كلّ حال هذا ليس مستغربًا بالنسبة للسوريين، فمن عجائب القصف الروسي منذ تدخله العسكري في البلد عام 2015، أنّه كان يترصّد التجمّعات، فما أن يحصل الاكتظاظ في الأسواق أو عند المفارق، حتى تأتي الغارة. وممّا رصدناه من آثار الغارات الروسية الأخيرة ويؤكّد ما قاله المقاتلون، قصف مستشفى إدلب في المدينة وإخراجها عن الخدمة إلى جانب منازل مدنيين، حيث كان المقاتلون على مسافة تبعد أكثر من 150 كيلومترًا.
وبحسب خطة "ردع العدوان"، كان من المفترض أن تتوقف المعركة عند حلب، بحسب ما ذكر لنا مسؤول في العلاقات العامة في الإدارة الجديدة في وقت لاحق للقائنا مع المقاتلين، لكن ما لم يكن متوقّعًا وقع. كان السقوط المتتالي للمدن، والتحرير الكامل لحمص في السابع من ديسمبر الماضي 2024، بمثابة إعلان سقوط للعاصمة بيد الثوّار. بالنسبة للمقاتلين عند جبهات حماة، فإنّ الطريق نحو دمشق (220 كيلومترًا)، استغرق رحلة ست ساعات وسط زحمة السير.
بعد سويعات من تحرير حمص، تلقّى المقاتلون الأوامر العسكرية "سيروا إلى دمشق"، لينطلق معها سباق الفصائل من الشمال والجنوب نحو العاصمة. ربحت الثانية، ودخلت المدينة أوّلًا، ولحقت بها فصائل الشمال لتبدأ مرحلة التمشيط واستلام السلطة. لم يخطر ببال هؤلاء المقاتلين أن يسيروا إلى الشام بخفّة الطير "كنّا نتوقع معارك ضارية لستة أشهر على الأقل، لا أن ندخلها في ساعات، لم نتوقّع ذلك. لقد دبّ الرعب فيهم"، يضيف أحدهم محلّلًا هرولة جنود النظام وترك آلياتهم ومقرّاتهم خالية.
مقاتل من كفرومة في منطقة معرّة النعمان، التي تحرّرت في بدايات المعارك، يتحدّث عن عودته مقاتلًا إلى بلدته المدمّرة، ورفيق له يشير إلى مشهد الأمّهات والعائلات التي انتظرتهم عند مداخل المدن الكبرى "فرحة الناس كانت أكبر من فرحتنا، حسّ الشعب بالحرية، قابلونا بالتهليل والحلوى والورود والأرز"، ورشّ الأرز في مناسبات الأفراح وملاقاة الأحبّة بعد فراق، عادة يعرفها أهالي الشام. تتبدّل ملامحهم ويخفت صوتهم عند الحديث عن تحرير المساجين "كان الأهالي يدفعوننا لتسريع الخطى نحو السجون في دمشق، علّنا نسبق الموت إلى أبنائهم".
محمّد (21 عامًا)، متزوّج حديثًا. ترك عروسه مسرعًا إلى المعركة بعد استدعائه في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني. حين سألناه عن لحظة وصول الأوامر بالتوجّه إلى دمشق، ردّد بانفعال وضحك "إلى الشام؟ لم نصدّق، الشام يا الله الشام"، ثمّ يكرّر المشهد نفسه مرّة وثالثة، وبالانفعال ذاته، وكأنّه يريد استعادة متعة تلك اللحظة، وأن يتوقف عندها كلّ شيء. كثيرٌ من المقاتلين الذين التقيانهم من سنّ محمد، هُجّروا من مدن ريف دمشق والقرى والبلدات الثائرة، أو فرّوا نحو الشمال السوري بسنّ المراهقة أو التجنيد؛ هؤلاء عاشوا أكثر من نصف حياتهم في حرب ضدّ نظام أمني ظالم ونالوا حصتهم من جرائمه. لم يتلقوا دروس التربية القومية، ولم يرفعوا الصوت قويًّا "عاش بعث العربِ" ويقفوا صفًّا واحدًا "فلاحًا وشبابًا لا يلين وجنديًا مقاتلًا" ليحيا البعث وقائد البعث. متديّنون، لكن التديّن العادي الذي نعرفه عن أهلنا في الشام. نلحظ أنّ الخوف لا يغلب طباعهم، ولا يعكس تصرّفهم تربية نظام أمنيّ. عندهم أريحية بالتعبير، ولا يتردّدون بالغمز واللمز من أيّ فصيل أو سلطة، حتى من يكبرونهم سنًّا من المقاتلين يوجّهون رسالة إلى الإدارة الجديدة، بدون أدنى تحفظ، بأن تكون "على قدر تضحيات الشعب السوري".