استمع إلى الملخص
- قصص السجينات ومعاناتهن: في سجن الفرع 215، تتعرض السجينات للاغتصاب والابتزاز، مما يؤدي إلى ولادة أطفال داخل السجن، ويواجهن وصمة العار المجتمعية وتهديدات بالقتل، مما يؤكد ضرورة حماية الضحايا ومحاسبة المسؤولين.
- دولة الكبتاغون وشبكاتها: استغل النظام السوري تجارة الكبتاغون لتمويل حربه، مما أكسب سوريا سمعة دولة المخدرات، ويبرز التحديات التي تواجهها سوريا في مكافحة تجارة المخدرات وتحقيق الاستقرار بعد الحرب.
عند أبواب سجون الأسد ومقرّاته الأمنية، تُذبح الإنسانية. لا شيء، أو كلام، يختصر المشهد. القمع والظلم يتكشّفان بأبشع الصور من جدران الزنازين الواسعة والانفرادية؛ في استغاثات المساجين على الجدران، والتي تنادي الله بين سطر وآخر، وتشكو الظلم والمذلّة. إذا كان للرعب والظلم رائحة ولون وصوت وشكل وملامح، فهو هناك. في الأغطية المنثورة بالمئات، والتي تدلّ على عدد المسجونين والمكدّسين في مساحة ضيقة لا تتعدّى أمتارًا معدودة. في الزنازين الانفرادية التي لا تتجاوز مترًا عرضًا وأقلّ من مترين طولًا وبارتفاع متر وثمانين، حين قسناها بأجسادنا، تتوسّطها جورة لقضاء الحاجة. في ذلك القبر كان يمكث السجين شهورًا وسنين، كيف نجا؟ أهوال السجن ووسائل التعذيب المرعبة انفضحت على مصراعيها أمام العالم، وهذه مسألة تُحسب للقيادة الجديدة، التي تُظهر حرصًا على رفع الغطاء عن جرائم النظام الساقط أمام وسائل الإعلام؛ يقول أحد الزملاء: كنّا نعرف، لكن الآن نرى؛ ورؤية الجريمة بأمّ العين مخيفة. صحيح أنّ الزنازين صارت خالية الآن، لكن ثمّة أرواحًا حاضرة لا تفارق المكان. بعد تحرير السجون، وانكشاف أحوالها المرعبة وأساليب التعذيب، حضرت المقارنة مع سجون وزارة أمن الدولة النازية شتازي، التي تحوّلت إلى متاحف. ومع هذا، فإنّ وحشة العنف الحاضرة في سجون الأسد، لن يجدها زائر زنازين برلين اليوم.
مشهد الجريمة واحدٌ، من صيدنايا إلى فرع فلسطين والمزّة والـ215، مرورًا بتدمر والمراكز الأمنية والاستخبارية. وفيما تتصدّر واجهة المشهد الزنازين غير الآدمية بكلّ تفاصيلها ووسائل التعذيب، وتلتقي مع أساليب محاكم التفتيش في تذويب الجثث والإعدامات، فإنّ جرائم صادمة ارتُكبت بحق السجينات قلّما نجدها في أقذر الأنظمة الاستبدادية، ولم تلقَ الاهتمام اللازم سوريًّا أو دوليًّا، وعلى المستويين الحقوقي والإعلامي؛ السجينات المغتصبات اليوم ضحية مجتمع يصمهن بالعار، وأهالٍ يلاحقوهنّ لـ"غسل العار".
في سجن الفرع 215، داخل المربّع الأمني في منطقة كفرسوسة (دمشق)، عنبرٌ خاص للسجينات، وفيه دلائل الاعتداءات وقصص سجينات تحرّرن. إحداهن، اعتُقلت فتاة مراهقة وخرجت من السجن مع أربعة أطفال. سجينة ثانية ابتزّها السجّان لانتزاع اعترافات حول زوجها، عبر اغتصاب ابنتها (عشرة أعوام) المسجونة معها. تقول سناء سيف، مديرة جمعية تُعنى بالسجينات (تجمّع الناجيات)، إنّها تحاول منذ فترة التواصل مع سجينة تعرّضت للاغتصاب وأنجبت طفلين في السجن، لكن العائلة التي تحمي السجينة المحرّرة تخشى كشف مكانها، والسماح بالحديث معها، فأبوها يبحث عنها لقتلها، من يقدّم الحماية لهؤلاء الضحايا؟ قصة أخرى ترويها لنا سيف، عن سجينة اعتقلت لابتزاز زوجها؛ وهو قائد عسكري لفصيل معارض، مع أمّه وأخته. اغتُصبن جميعهنّ، لكن بعد إطلاق سراح الزوجة، انفصل عنها زوجها بسبب الاغتصاب، قبل أن يعود إليها لاحقًا. ومن دلائل هذه الجرائم في السجن، نلحظ بعض أدوية منع الحمل، المتناثرة على الأرضية بين أدوية الجرب. جرائم تدلّل، بما لا يقبل أي شكل من التسوية أو التسامح، على أنّ العدالة مطلب لا غنى عنه في أيّ مستقبل لسورية.
في الطابق الأوّل من مبنى السجن نفسه غرفةٌ واسعة تتبعثر فيها الأوراق الأمنية والمعدّات المكتبية وبقيّة ملفّات أُتلفت عن عمد، وعلى أحد المكاتب أعلام لتنظيم داعش. ماذا تفعل تلك الأعلام في مقرّات النظام الساقط؟ أمام مبنى سجن 215، تدخل امرأة رفقة أحد عناصر المعارضة، ومعها فتى يبدو وكأنّه ابنها، يبحثان عن أثر عزيز فُقد في تلك الأقبية. مشهد الأهالي الباحثين عن أفراد من عائلاتهم اختفوا في سجون النظام مألوفٌ هنا، تلتقي به أمام جميع المقرّات، ويتحدّث عنه كل أبناء سورية. في كل بيت سوري جُرح وجريمة ينتظران القصاص؛ بيوت العزاء تُنصب حين يتأكّد الأهالي من وفاة ابن أو ابنة في السجون، فيما يتمسّك البعض بأمل العثور على أحياء، هذا حال سيّدة تعمل في إحدى جامعات دمشق، علمت عائلتها بوفاة اثنين من أبنائها من خلال لوائح السجناء في صيدنايا، فيما البحث جارٍ عن اثنين آخرين، لم يخرجا مع المساجين المحرّرين. زميلة لها تقاطعها وتتحدّث عن ابن أخيها المختفي لكن ليس في سجون الأسد؛ اعتقلته قوّة من "جبهة النصرة" سابقًا، قبل أعوام في درعا، حيث كان يعمل شرطيًا لدى نظام الأسد، وقيل لهم إنّه اقتيد إلى إدلب، ولم يعرفوا عنه شيئًا مذّاك. ولنا عودة إلى إدلب وما يُحكى عن تجربتها وسجونها في مشهد لاحق.
في سجن 235 (فرع فلسطين)، لا تختلف أحوال الزنازين عن سجن المخابرات في كفرسوسة، مع كثرة الانفراديات، وينفرد بنوع منها أشبه بقبر، حيث المنامة مصطبة ترتفع نصف متر، مع تنوّع أساليب التعذيب. وهنا تجد آثار أوراق وملفّات متلفة، بعدما تخلّص منها جنود النظام على عجل قبل فرارهم.
نفق الفرار من مطار المزّة؟
في منطقة مطار وسجن المزّة، يبحث أحدهم عن أثر ما لأخيه الذي اختفى قبل سنوات عند نقطة أمنية. شهدت المنطقة محطّات حافلة في تاريخ النظام السوري، فمن المطار انطلقت الصواريخ وقذائف المدفعية لقصف المناطق الثائرة في محيط العاصمة. وكانت عائلة الأسد تستخدمه مطارًا خاصًا. كما عرف حافظ الأسد المطار جيدًا، في بدايات صعوده العسكري، حين خدم ضابطًا في القوّات الجوّية، وعرف سجنه، حيث قبع لفترة بعد محاولة انقلاب نفّذها الناصريون والبعثيون في ستينيات القرن الماضي. في المدرّج حاليًا آثار قصف إسرائيلي، ودبابات للجيش السوري، وبقايا مروحية عسكرية. إلى جانب منه، مرآب فيه مروحيات. تتقدّم لمسافة قصيرة، فتجد أمام مبنى إداري كومة محروقة من حبوب الكبتاغون؛ حجمها يدلّل على "استخدام داخلي"، أكثر منه للشحن والتصدير. يقع سجن المزّة في طابق تحت الأرض، أحواله صادمة كما بقية السجون. في طابق آخر، غرف يبدو أنّها مخصصة لإقامة الجنود، ظروفها أيضًا مزرية. في مبنى آخر غير بعيد، مكتب فخم حُطمت بعض مقتنياته. يبدو مكتب المسؤول عن المطار. تتصل به غرفة نوم مؤثثة. المكتب خالٍ من الأوراق الرسمية، إلّا من بطاقة أعمال تعود لطبيب نفسيّ يعمل في دمشق.
قيل أخيرًا (بحسب ما نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية) إنّ الأسد فرّ مع نجله حافظ ليلة السابع من ديسمبر عبر نفق سرّي من قصر الشعب إلى مطار المزّة، ومن هناك انتقل بمروحية إلى قاعدة حميميم قبل السفر إلى روسيا. لم نعثر في جولتنا الطويلة داخل المطار على دلالة على وجود هذا النفق هنا؛ لكن في ظل مساحة المنطقة الواسعة وتعدّد المباني، فإنّ كلّ الاحتمالات تبقى مفتوحة، خصوصًا أنّ المطار، بحسب ما بدا لنا في الأسبوع الثالث من خلع النظام، لم يُمشّط بالكامل ولم يُدقّق في محتوياته؛ فهو خالٍ تقريبًا باستثناء بعض عناصر الحراسة على الباب، والذين اعتذروا عن مرافقتنا وإرشادنا داخل المطار، بسبب قلّة عددهم.
دولة الكبتاغون وشركاؤها
قبل أن تبلغ العاصمة، على طريق بيروت - دمشق، وتحديدًا في قمة الجبل بمنطقة يعفور في الريف، قصرٌ مسوّر، لم يكن يُسمح للسكّان المحليين بالاقتراب منه، وكان يُمنع الرعاة من رعي أغنامهم أعلى الجبل، خوفًا من كشف المنطقة أمامهم. كانت الشاحنات تعبر إليه كلّ عدّة أسابيع، بحسب ما يحكي لنا حارسٌ أمام صالة مفروشات في أسفل الطريق، لا يؤكّد هوية لوحات الشاحنات، لبنانية أم سورية، لكنه يحسم أنّ الرائحة المنبعثة من المنطقة لم تكن تُحتمل، وأنّ "الحزب" كان نافذًا وحارسًا للقصر، بدون أن يحسم من الذي يعنيه بالحزب. ولفظ "الحزب" يدلّل به أبناء المنطقة على حزب الله اللبناني، الذي يملك نفوذًا في البقاع، كما في المناطق السورية المجاورة، خصوصًا تلك التي هُجّر أهلها خلال فترة الحرب السورية، مثل الزبداني. القصر كان ملكًا لعائلة غير سورية، بحسب ما يُشير أحد مقاتلي المعارضة، بخفّة روحهم وملامحهم الشامية اليافعة؛ وهذا انطباعٌ عن هؤلاء المقاتلين سيرافقنا في كلّ محطة في جولتنا نحو المحافظات الشمالية والغربية للبلاد، متفاجئين بهم، ربّما بسبب الصورة التي رُوّجت عن معارضي النظام بأنّهم إسلاميون متطرّفون.
نعود إلى القصر. فقد استولت عليه فرقة ماهر الأسد وحوّلته إلى واحد من أكبر معامل الكبتاغون في البلد. المعمل، بكلّ محتوياته، من المواد الأوّلية مرورًا بماكينات التصنيع وصولًا إلى أدوات مخصّصة لصناعة الكبتاغون في سلع جُهزت وسائل للتهريب؛ كلّ هذا مركّز في مبنى ملاصق للقصر. أمّا القصر نفسه، فكان فارغًا، إلا من قطع أثاث معدودة لا تدلّ على سكن عائلي. الحارس من عناصر المعارضة يتردّد في السماح لنا بمعاينته، والسبب أنّه وزملاءه يجلسون ليلًا إلى جانب الموقدة، يشعلونها بخشب صناديق عتيقة طردًا لبرد شتاء جبلي، ويتناولون عشاءهم من معلّبات. الحارس ورفيقه في مقتبل العشرين، وتعابير وجهيهما تعكس خجلًا من فعلٍ يريانه غير مستحق، في ملك ليس ملكهما.
من مادة الكبتاغون المخدّرة موّل النظام السوري حربه ضدّ شعبه على مدى 14 عامًا. حتى اللحظة، لم يُعرف بعد عدد مصانع الكبتاغون في البلد، غير أنّها تتوزّع بين مراكز أساسية للتصنيع والتعليب والتجهيز والتصدير، كما هذا المصنع الذي زرناه في يعفور؛ وبين أخرى يتركّز فيها التخزين أو التصنيع أو كلاهما. تُقدّر الأرقام حجم تجارة هذا المخدّر بمئات الأطنان، بقيمة تقدّر بأكثر من ستة مليارات دولارات، صنّعها وصدّرها النظام إلى دول الجوار، حتى اكتسبت سورية سمعة دولة المخدرات، عن جدارة.