... وماذا عن "لايدي سابيينز"؟
تعود فكرتنا عن سُبُل عيش أسلافنا القدماء في الحقب الطويلة المتّفق على تسميتها "ما قبل التاريخ"، وبالتحديد عن كيفية عيش النساء، إلى القرن التاسع عشر، حيث بدأ نشر أبحاث الأنثروبولوجيا القديمة التي قام بها بحّاثة رجال هيمن على أفكارهم تقسيم الأدوار الجندرية بحسب النظرة السائدة آنذاك والتعاطي الذكوري مع المرأة كونها غرضًا للإمتاع الجنسيّ.
بيد أن ما توصّلت إلى كشفه أعمالُ التنقيب الحديثة، مضافًا إليها دخولُ النساء معترك هذا المجال العلميّ، قلَبَا رأسا على عقب الصورةَ التي كانت تُرينا المرأة كائنا سلبيا، ضعيفا، يتلخّص دورُه حصريا في الإنجاب وتربية الأولاد والبقاء داخل المغاور، بينما يضطلع الرجل الصيّاد، جاني الثمار، بكل المهام الأخرى، بما فيها تطوير الأدوات التي حسّنت شروط حياته، وصولا إلى اجتراحه الطقوس والفنون على أنواعها. فبحسب الأبحاث التي ضمّتها أعمالٌ عدّة نُشرت أخيرا، وفي مقدمتها مؤلّف "لايدي سابيينز" الذي جمع مقالات 33 من أهم المختصّين العالميين في مختلف المجالات، لا تبدو "الإنسانة الماهرة" ضئيلة ضعيفة يجرّها الرجل من شعرها ويفعل بها ما يريد، أو تعيش في كهف ومن حولها تتحلّق ذرّية من الأطفال مهملي المظهر.
على العكس، بعد أن تمكّن العلمُ بتقنياته الحديثة جدا من تحديد جنس الهياكل العظمية البشرية أو بقاياها، واكتشاف الجنس الأنثوي بعض الرفات التي عُدّت لذكور في عدة أماكن، تبيّن أن المرأة القديمة كانت قوية البنية، صاحبة عضلات وقامة أكبر بقليل مما هي عليه اليوم، غير مشعرة، وذات مكانة اجتماعية ودور مهم داخل المجموعات الصغيرة التي كانت تعيش فيها، ولا تعدو عشرات الأشخاص، فكان من الضروري توزيع الأدوار ما بين الأفراد بحسب الكفاءات والقدرات، من أجل حماية المجموعة والبقاء على قيد الحياة. أيضا كانت المرأة القديمة سوداء البشرة، برغم الشروط المناخية وخفّة الأشعة الشمسية حتى العصر الحجري الحديث (ستة آلاف سنة ق.م) وقد بدأ لونها يفتح عندما بدأ غذاؤها يتضمّن فيتامين د الذي تحويه المزروعات. كانت أيضا زرقاء العينين عامّة، تشارك في الصيد، تملك معارف أساسية في عالم النبات (الغذاء والتطبيب)، وتدرك كيفية السيطرة على خصوبتها والحدّ من الإنجاب، وذلك من خلال الإرضاع لثلاث أو أربع سنوات متتالية، وهو ما يمنع الإباضة والحمل، أو أيضا من خلال استخدام بعض النباتات المسبّبة للإجهاض!
هذا وقد أظهرت أعمال التنقيب أن قبور النساء والرجال على السواء كانت تحوي أدوات تبرّج معقّدة، وملابس متعدّدة الطبقات (قبل اكتشاف الإبرة بخرم) ومتنوّعة المواد، بعضها مضفور ومزيّن بحلى مصنوعة من مواد كانت تعتبر ثمينة، إذ كان يتم جلبها من أمكنة تبعد مئات الكيلومترات عن أمكنة الدفن، تسريحات شعر متقنة وأيضا أغطية رأس، عدّة للزينة، وشوم ونباتات شافية. أيضا تشير بعض اللقايا إلى شيوع الرقص، بدليل استخراج آلات موسيقى وجدت في أكثر من موقع.
أخيرا، تجدُر الإشارة إلى إحدى النظريات القائلة بوجود المرأة على كل الجبهات، والتي تثير سجالا في الأوساط المختصة بشأن تعدّدية المهام المنوطة بها، خصوصا بعد اكتشاف حاملة أطفال تعلّق على الظهر وتترك أيادي النساء حرّة، إما للقطاف أو للجمع على أنواعه. فبحسب مروّجي تلك الفكرة، كانت "لايدي سابيينز" أو "الإنسانة الماهرة" امرأة متعدّدة، نشيطة، متنوّعة المهارات، تعمل بشكل مستقلّ وبتعاون مع الرجل، من دون أن تكون تابعة له، وهو ما يدحض النظريات السابقة القائلة بتقسيم العمل بحسب الجنس، وعلى رأسها نظرية الرجل الصيّاد والمرأة جانية الثمار. أما بشأن السجال، فتُثيره خشيةُ الوقوع في مطبّ معاكس: أي أن تملي النزعة النسوية المتطرّفة نظرةً لا تقوم على أساس علمي يمكن التحقق منه، مثلما سبق للنزعة الذكورية أن فرضت قراءتَها المتحيّزة وغير العلمية للتاريخ القديم. أفلم تُظهر الاكتشافات أنّ الهياكل العظميّة التي وجدت وكانت مصابة بجراح في مفاصلها من الصيد ورمي الرماح، كانت بنسبة 95% من الذكور؟! تبقى الـ5% وما ستجلبه إلينا اكتشافات قادمة عن تاريخنا القديم.