الصامتون
ثمّة كُتّابٌ رحلوا إلى العالم الآخر، وبالكاد بلغتنا رفرفة أجنحتهم وهمسات أرواحهم. عاشوا قليلاً، لا بكمّ السنوات التي أمضوها على هذه الأرض، وإنّما بما أحدثوه من ضجيج، وبما صرفوه من ظهور ولفت انتباه، إذ بقوا على دأبهم، صامتين، بعيدين، ناذرين أنفسهم للوحدة، حافرين كلماتهم في صخور الشكّ، رامين صنّاراتهم في مياه الأسئلة. في المقابل، هناك الجاهزون المتهيّئون الحاضرون أبداً، محتلّو المركز، لافتو الانتباه، جاذبو الأنوار والأضواء، عشّاق التصفيق والجوائز والألقاب والتكريمات على أنواعها، كيفما التفتَّ وجدتهم، وسمعتهم، مشاركين في المعارض والمؤتمرات، أصحاب أقلام وتصريحات ومقابلات، يشعرون إن غابوا عن الصورة أنّهم ماتوا أو ذَووا أو نُسوا. هؤلاء يرعبهم الصمت، تريعهم الظلمة، وإن كانوا يلهجون بغير ذلك ويحكون عن وحداتهم في أثناء عملية الكتابة. والكتابة بالنسبة لبعضهم تشبه الحياكة، والغزل بالنول أو التطريز، تجرى في الهدأة، في البعاد، في التخلّي عن الخارج والدخول إلى عالم عنوانه الوحدة وخفوت الحركة وسوء الفهم ومحاولة رتق الثقوب وتنظيف الجراح. فيما هي بالنسبة لآخرين ميادين قتال، براعة وبطولات وبرهان على القوة، يحتاج مشاهدين ومشجّعين وجمهوراً من المعجبين.
ثمّة كُتّابٌ أشبه بالأبطال، وآخرون أقرب إلى "كومبارس"، علاقتهم مرتبكة بذواتهم، انغماسهم في الكتابة كامل فتفيض نصوصهم على حياتهم وتُغرِقها. تلك كانت على سبيل المثال حال الشاعر والكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا، المولود عام 1888، الذي وقّع أعماله بأكثر من اسم مستعار، ولم ينشر شيئاً منها طيلة حياته. يقول: "كم واحد أنا؟ من أنا؟ وما هي تلك المسافة بين أنا وأنا"؟ ولمن لا يعرف، فقد بيسوا والده وهو في سنّ الخامسة، تبعه شقيقه بعد ستّة أشهر، ثمّ تزوّجت والدته، وحملته معها إلى جنوب أفريقيا حيث تعلّم الإنكليزية، وكتب بها أوّلَ أشعاره وهو في العاشرة من عمره، ووقّع من يومها باسم مستعار، ثمّ عاد إلى لشبونة عام 1905 حيث درس الأدب، وعمل في وظائف صغيرة لكي يتفرّغ للكتابة. في العام 1914، ولدت شخصية دكتور ريكاردو ريس (29 يناير/ كانون الثاني)، الساعة الحادية عشرة ليلاً، أحد الأسماء المستعارة الكثيرة التي بلغت 136 اسماً، وقّع بها نصوصاً متنوّعة، تُعبِّر عن الآراء السياسية المختلفة لأصحابها، كما عن أفكارهم وفلسفتهم ومشاعرهم تجاه الحياة. كوكبة من الكتّاب خلقها بيسوا وجعل لها تواريخ وشخصيات ذات وجود مستقلّ عنه، لا بل حتى متضارب مع بعض أفكاره، وقد جعل "كُتّابه" يختلفون في ما بينهم أيضاً. ويبقى السؤال: لمَ اجترح بيسوا تلك الأسماء كلّها، التي أنتج تحت غطائها تحفاً فنّيةً معترفاً بها لخمسة على الأقلّ من بينها؟ سؤال حاول هو أن يجيب عنه حين كتب لأحد أصدقائه، أن ذلك عائد لطفولته، مع ابتكاره شخصية فارس وقّع باسمه قصيدةً كتبها وهو في السادسة من عمره، مقاومة لشعوره بالفقد والوحدة.
كتب بيسوا بلا توقف، وما نشر شيئاً من أعماله. لم تكن الكتابة بالنسبة إليه فعلاً للبروز، وإنما للاختفاء والغوص في ذواته المتعدّدة. ففي الحقيبة التي اكتُشفت بعد وفاته، تكدّس عدد من المخطوطات يزيد عن ثلاثين ألف صفحة، في مختلف الأنواع الأدبية، باستثناء الرواية، وهي صفحات لم تبح إلى الآن بكلّ مكنوناتها. لم تكن الحياة أو أيّ شيء آخر ليعنيه خارج الكتابة، وبها استبدل الحياة العادية والناس الحقيقيين، وعاش مع شخصياته وزملائه من الكُتّاب المُختلَقين بأسمائهم المستعارة. قال إنه كتب ما أملوه عليه، "أحطّم روحي إلى أجزاء، إلى أشخاص مختلفين"، لقد كان هؤلاء سبيله إلى الخلاص، جسّدتهم الكتابة وأوجدتهم، وأشعرته أنهم هم الحقيقيون وهو الوهم.