مازن الحُمّادة... مسيح صيدنايا الصغير

17 ديسمبر 2024
+ الخط -

لن تفارقنا صورتُك. هذه حقيقةٌ أقوى من كلّ وعد، أعتى من أيّ واقع، فكيف تُنسى صورتك وأنت تروي ما فعلوه بك، وعيناك تذرفان الدمع، وصوتُك يختنق بخلجات الشعور بالظلم وعدم وجود عدالة في هذا العالم ترفع عنك وعن إخوانك هذا العسف كلّه. ملامحك اختصرت ملامح كلّ ضحايا وحشية النظام الأسدي وإجرامه، وما أكثرهم، عذابات الشعب السوري كلّها وآلامه. أنت الذي تعذّبت أكثر من السيّد المسيح. نعم، وقد صُلِبت مثله وطُعِنت واغتُصِبت وعُذِّبت مئات المرّات، يصعب تخيّل حرقتك، شعورك بالمذلّة والإهانة، أعطاب روحك التي عفّروها بتراب الكراهية ووحول بربريّتهم. حتى الاستماعُ إليك في مقابلاتٍ أجريت معك بهدف التوثيق لوحشية النظام الأسدي، وأنت تتلفّظ بتلك الكلمات التي تهوي على الرأس كفأس، تعصر القلب وتقطّعه بسكين، مُجرَّد الاستماع إليك هذا فوق طاقة الإنسان على الاحتمال، فكيف وأنت عشت كلّ ما قُلتَ في لحمك ودمك، أفعالاً تكرّرت يومياً ودامت سنوات طوال. وما تراك فعلت لكي تُقاسي هذا كلّه؟ هل قتلتَ، هل سرقتَ، هل تعدّيتَ واغتصبتَ وشوّهتَ أو آذيت؟... لا، أنت كنت مواطناً سورياً، فقط لا أكثر، في ملكوت آل الأسد المتلذّذين بسفك الدماء وقصم الظهور وآلات التكبيس والفرم والحرق. لا أعتقد أن طغاةً آذوا شعوبهم بقدر ما فعلوا هم. أمثلة التاريخ كثيرة، لكنّ ساديّتهم وانحرافهم وبربريتهم تفوق كلّ خيال.
ولمن لا يعرف القصّة كلّها، كان مازن الحُمّادة في الثالثة والثلاثين من عمره لمّا قامت الثورة عام 2011، وكان يعمل فنّياً في مجال النفط، قريباً من دير الزور، مدينته. نزل إلى الشارع كما فعل مواطنوه حين طالبوا بتغيير نظام حكم سورية بعد استباحهتا أكثر من أربعة عقود. كان سعيداً يومها، قادته حماستُه إلى التحدّث إلى الصحافة الأجنبية، والتعبير عن فرحته بالمشاركة في تظاهرات سلمية. وقد سجن مرَّتَين فترات قصيرة في دير الزور، لكنه، عند انتقاله إلى دمشق عام 2012، اعتقل، ونُقِل إلى مقرّ المخابرات الجوية في المزّة، وهنا ابتدأ درب الآلام، الذي انتهى بإعدامه وآخرين من معتقلي سجن صيدنايا، عشيّة سقوط النظام.
في الكتاب الذي يحمل عنوان "لم يعد معنا... سيرة مغيّب"، وفي نسخته العربية التي صدرت عن دار الجديد في بيروت هذا العام (2024)، نقرأ على قفا الغلاف: "حينَ تيقّنتْ الفرنسية غارانس لوكان أنّ مازن الحُمّادة، الذي أمضتْ معه ساعاتٍ طويلةً تصغي فيها إلى قصّة سجنه وتعذيبه ولجوئهِ لن يعود، قرّرتْ إنشاء كلامه كتاباً. خانته عدالة الغرب، ففضَّل العودة إلى سورية بلد المطامير والإهانة، وهو يحلُمُ بدير الزور والفرات وبدولةٍ عادلةٍ لا تفترسُ أبناءَها. وصلَ لمطار دمشق واختفى. صحيحٌ أنّ التنّين لا يرتوي من دماء أبنائه، بيدَ أنَّ شقائقَ النُّعمانِ عنيدةٌ كالرَّبيع". ولطالما تساءل الجميع عن سبب عودة مازن إلى فم التنّين، عن دافع ارتمائه مجدّداً في الجحيم، بعدما نجا منه وسافر إلى هولندا، حيث لم يألُ جهداً في فضح ممارسات النظام وهمجيته، عبر السفر في أوروبا، وتقديم شهادات عمّا عاناه ويعانيه الآخرون. فعل هذا كلّه وتجرّأ أن يعود. قيل إن أجهزة الأمن كذبت عليه وأغرته بالعودة، هذا يستحيل أن يصدّق. وقيل إنه منطق الضحية لا تستطيع البعاد عن جلّادها، وهو غير مقنع. وقيل إنه اشتاق لبلاده وإخوته، ولصبحيات دير الزور وأماسي البلاد، ممكن...
ثمّة حرقةٌ في قلوب كلّ من سمع عنك وبك، كيف أنَّك لم تشهد سقوط النظام وكنت قاب قوسين أو أدنى. أهو حظّك السيئ، أم أنّها رحمة الإله أخيراً، إذ كيف ينجو من عاش ما عشته، وهل ينجو فعلاً من هم مثلك محطّمو الروح من أسرى التعذيب الوحشي؟ أفكّر أنك يا مازن! لم تخرج من سجن الأسد لكي تصبح نجماً، لقد أدّيتَ واجبك وبذلت جهدك، وحين شعرت أنك أنهيت مهمّتك، لم ترد مكافأة أو نعيماً يستبدل جحيمك. لقد عدت ببساطة إلى عائلتك وأهلك، أولئك الذي عشت معهم ما عشت، ولم تتخلّ عنهم. أنت اليوم لم تعد واحداً، أنت مائة، ألف، بل عشرات الآلاف، الذين لم تبلغنا أصواتهم. وحدك أنت تكلّمت، وبهذا أصبحتَ صوتهم وصورتهم. استرح الآن أيها الفارس الجميل، لك ربما العدالة التي تحدّثتَ عنها حين قلت "لهم الله". لعلّ السماء تكافئك أخيراً فيمنحك موتُك راحة أبدية مشتهاة.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"