هنا بيروت
منذ يومين، مرّت ذكرى 4 أغسطس/ آب 2020، يوم انفجار مرفأ بيروت، الذي دمّر نصف العاصمة اللبنانية (نحو 50 ألف وحدة سكنية)، مُخلّفاً 215 قتيلاً، ونحو 6500 جريح، وخسائرَ قُدّرت بنحو 15 مليار دولار. السلطات اللبنانية عَزَت الانفجار إلى اندلاع حريق لم تُعرف أسبابه (!) في العنبر 12، حيث خزّنت كميّات هائلة من نيترات الأمونيوم، من دون اعتماد أيّ إجراءاتٍ وقائية. بالطبع، لا يتوقّع اللبنانيون أن يجرّم المسؤولون، كما لم يجرِ سابقاً الكشف عن عديدٍ من مرتكبي الجرائم والاغتيالات الفردية والجماعية على السواء، باستثناء أهالي الضحايا، الذين ما زالوا يرفعون صور قتلاهم، مطالبين بكشف الحقيقة.
والحقيقة أنّ الذاكرة اللبنانية باتت معتادةً على هضم تواريخ مؤلمة وكارثية كثيرة، فهي أشبه بوحش ذي فكّين جبّارين يلتهم ويعلك أكثر الأشياء استعصاءً على الهضم؛ الحروب بأنواعها، الكوارث، الدمار، الأزمات غير المسبوقة، الانهيارات الاقتصادية، الاغتيالات، ليعيد بصقها تحت أشكالٍ أخرى من نوع: مقاومة وممانعة، ووطنية عرجاء، ومعارك مفتوحة طويلة الأمد، والويل للخونة والعملاء، أو من نوع: حُبّ الحياة، وقوّة لبنان في ضعفه وحياده، وقرار الدويلة يسيطر على قرار الدولة، ونحن مع نشر الجيش وسيطرة الدولة على أراضيها كافّة، والفيدرالية هي الحل... إلخ...
واليوم (أمس 5 أغسطس/ آب)، تراني أكتب زاويتي في فسحة زمنية ضيّقة جداً، بالكاد تتّسع لفكرة أو فكرتَين، ونحن على أعتاب ضربة ينتظرها الجميع، بل العالم بأسره، لنعرف ما الذي سيجري في أعقابها، بل لنقرّر مصائرَنا الشخصيةَ الصغيرةَ بكيفية التصرّف؛ الفرار والاختباء لحماية أنفسنا وأطفالنا من مصير يتهدّدنا بالهلاك، للمرّة الألف. هذا مع العلم، أنّنا، قبل موعد نشر المقالة، قد نكون قد أصبحنا، وبناءً على طبيعة الردّ الإيراني، إمّا على أعتاب حرب شاملة تحرق الأخضر واليابس في منطقتنا بأسرها، وهي ما يتوق إليه بنيامين نتنياهو ويخطّط له منذ أشهر، فيما تبدّى من عمليتي الاغتيال الاستفزازيتَين، أخيراً، في الضاحية الجنوبية وطهران، وربّما أيضاً على أبواب حرب أهلية جديدة في لبنان. هذا من دون أن نُلغي أملاً ضئيلاً بردّ إيراني محدود ومتعقّل، ينزع من يد نتنياهو فتيل التفجير، ويحفظ ماء الوجه في حدّه الأدنى.
في أثناء ذلك، يستغلّ اللبنانيون أدنى فسحة للعيش ما زالت متوفّرة، فيتابعون حضور حفلات الصيف الكثيرة التي لم تُلغَ بعد، ويحتفلون بتطويب روما لقدّيسٍ ماروني جديد هو البطريرك أسطفان الدويهي، يمنح المسيحيين أملاً بأنّ وجودهم هنا مُبرّر وقديم، فيما تسير الضاحية الجنوبية في مأتم مسؤولها العسكري رقم واحد، فؤاد شُكر، مُؤكّدة أنّ الردَّ سيكون موجعاً وقوياً، بخلاف المرّات كلّها. لقد أراد لنا حظّنا السيئ، على ما يُردّد اللبنانيون بأكثريتهم، أن نكون في بقعة جغرافية استثنائية الجمال والطبيعة، وإنّما مُحاطةٌ بتهديداتٍ مستدامةٍ من إسرائيل، في الجنوب (وسورية في الشمال)، فإلى أين المفرّ؟ إنّها لعنة الجغرافيا، ولعنة التوقيت السيئ، ولعنة النكبة، ولعنة إسرائيل، أعتى وأسوأ الأنظمة على الإطلاق. 50 عاماً مرّت في الانتظار، في الأمل البائس مبتور الأطراف الزاحف أرضاً على بطنه، في الترقّب والصلاة واستدعاء الأمل، في حُبٍّ ضائع مهدورٍ غيرَ متبادلٍ مع وطنٍ لا يني يقع ويقوم، فتقع قلوبنا معه وتنهض، لكنّه اليوم، لا يني يقع ويقع ويقع، متدحرجاً نحو قاع لا قرار له.
والحقّ يقال، أنا شخصياً، ما عدت أريد أن أقاوم. أريد فقط فسحة سلام ضيّقة بحجم شجرة وحيدة أتّكئ بظهري إلى جذعها لأُودِّع من تحت أغصانها الوارفة سهولَ لبنان وجباله، وديانه الخضراء وينابيعه الهامسة، لأرسل عينيّ قارباً يطفو على بحره المتوسّطي الجميل، تحت شمسه الحانية، وسعة سمائه الصافية. نعم، بهذه الأنانية، بهذا الانفصال، بهذا النأي، وبذلك القدر من التملّص والانكفاء. لا أريد أن أسمع مزيداً من طبول الحرب، وأصوات الداعين إليها، المُستعدّين أبداً لإحراقنا جميعاً على مذبحٍ لا ربَّ حقيقياً له.
نعم، هنا بيروت.