هل انتهت أزمة المرحلة الثانية لسد النهضة؟
حمل قول وزير الري الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، في محفل أكاديمي أخيرا، إن بلاده لن تتمكّن من تعلية الممر الأوسط لسد النهضة إلى ارتفاع 595 مترا، وأن العمل جارٍ على رفعه إلى ارتفاع 573 مترا فقط، تساؤلات بشأن دوافعه، وتوقيت صدوره من مسؤول كبير قبيل الانتخابات المقرّرة في 21 من شهر يونيو/ حزيران الحالي، ثم عن مدى تأثيرها على انتهاء أزمة المرحلة الثانية من الملء الأول لسد النهضة، وعن مستقبل الأزمة بصفة عامة؟
واضحٌ أن إثيوبيا تسابق الزمن، منذ فترة، لتعلية الممر الأوسط للسد من ارتفاع 560 مترا العام الماضي إلى ارتفاع 595 هذا العام؛ لتخزين كمية مياه تقدر بـ 13.5 ملياراً مع الفيضان المقبل، تضاف إلى خمسة مليارات العام الماضي، ليصبح إجمالي التخزين في المرحلتين معا 18.5 مليار متر مكعب، تسمح بتشغيل توربينين منخفضين لتوليد الكهرباء بطاقة 750 ميغا وات في أغسطس/ آب المقبل. ولكن حسابات الجيولوجيين وأساتذة السدود، وصور بعض الأقمار الصناعية في فترات سابقة، هناك صعوبات فنية ولوجستية (لم يتم الإفصاح عنها) تقف عقبة دون تحقيق هذا الهدف. وبالتالي، جاءت تصريحات الوزير الإثيوبي، في ندوة مغلقة أمام نخبة من الأكاديميين، كاشفةً عن هذا الأمر الذي لم يصرّح به أمام الرأي العام، بل الخطاب الآخر الموجّه إلى الرأي العام أن المرحلة الثانية للملء ستتم في موعدها، وسيتم البدء في عملية توليد الكهرباء، خشية تأليب الرأي العام الذي ربما يصوّت، بصورة عقابية، ضد رئيس الوزراء، آبي أحمد، وحزبه الجديد "الازدهار". وهذا الأسلوب، أو التكتيك الإثيوبي، يُعرف في تكتيكات مواجهة الهيمنة المائية (Water Hegemony) باسم أسلوب بناء المعرفة (Knowledge Construction)، ويعني أن الدولة تصدّر رسائل إلى الرأي العام الداخلي والخارجي، تخالف ما هو واقعي بشأن وضعها المائي، تخفيفا للضغوط الداخلية والخارجية، وهو ما لجأت إليه مصر، منذ فترات زمنية طويلة، لرفض إقامة سدود إثيوبية، على اعتبار أن ذلك يؤثر في حصتها المائية. وبالتالي، تخفّف من الضغوط الخارجية عليها، وهو ما تلعبه إثيوبيا حاليا في توجيه رسائل طمأنة إلى مواطنيها بشأن إتمام ملء المرحلة الثانية في موعدها، على الرغم من أن الواقع يشير إلى أن الملء لن يكتمل وفق الخطط الموضوعة سلفا.
لولا الظروف الطبيعية والعقبات اللوجستية، لأقدمت أديس أبابا على عملية الملء بصورة كاملة من دون أدنى مراعاة للقاهرة والخرطوم
يعني هذا التصريح الإثيوبي فعليا أن أزمة المرحلة الثانية للملء الأول قد انتهت، فقد باتت المعلومات شبه واضحة لمصر والسودان اللذين استعدا، حتى قبل هذا التصريح، لمجموعة من الاحتمالات بشأن عملية التخزين؛ لتقليل الآثار الناجمة عنه على كليهما. ومن ثم، فإن السودان الذي كان يحتجز كميةً من المياه في بحيرة سد الروصيرص خشية تعرضه للجفاف خلال فترة الملء "يفترض ستة أسابيع حال اكتمال الممر الأوسط، والآن ستقل للنصف لعدم اكتماله". يمكنه تصريف نصفها لاستقبال المياه التي ستتعدّى الممر الأوسط، والأمر نفسه بالنسبة لمصر التي ربما تصرف قدرا من مياه خزّان السد العالي، صوب الأراضي الزراعية، وقدرا آخر صوب مفيض توشكي، تمهيدا لاستقبال الفيضان الجديد. وهنا يثور التساؤل بشأن الدوافع وراء انتهاء هذه الأزمة؟ هل هي دوافع ذاتية "طبوغرافية ولوجستية" خاصة بإثيوبيا، أم إنها نتيجة الضغوط المصرية والسودانية، سيما التنسيق العسكري الثنائي بينهما، خصوصا تدريبات حماة النيل التي شهدت مشاركة كبيرة من كل الأفرع في القوات المسلحة لكل منهما؟
ربما تعوّض إثيوبيا العام المقبل ما لم تقم بتخزينه هذا العام بصورة أحادية، من دون التنسيق مع دولتي المصب
لا يرى صاحب هذه المقالة أن الأمر يتعلق بهذه المناورات العسكرية، أو حتى التحرّكات الدبلوماسية والعسكرية لأطراف الأزمة، أو بعض القوى الإقليمية والدولية، وإنما يتعلق بالجانب الإثيوبي الذي يصر حتى الآن على رفض توقيع اتفاقٍ ملزمٍ يحدّد بصورةٍ لا لبس فيها قواعد الملء والتشغيل في المرة الأولى، والتشغيل السنوي بعد ذلك، وأنه لولا الظروف الطبيعية والعقبات اللوجستية، لأقدمت أديس أبابا على عملية الملء بصورة كاملة من دون أدنى مراعاة للقاهرة والخرطوم. ومن ثم، الربط بين تصريحات الوزير الإثيوبي والتنسيق العسكري المصري السوداني غير صحيح، وربما يمكن فهمه في إطار تكتيك بناء المعرفة أيضا من دولتي المصبّ.
وبالتالي، إذا كانت أزمة المرحلة الثانية للملء الأول قد انتهت "لأسباب طبيعية"، فإن أزمة سد النهضة لم تنته، بل ربما تعوّض إثيوبيا العام المقبل ما لم تقم بتخزينه هذا العام بصورة أحادية، من دون التنسيق مع دولتي المصب؛ وهذا وارد، لا سيما أنها ترفض القول "حتى وإنْ من باب الدبلوماسية" أن تقليل عملية التخزين جاء استجابةً لطلب مصري سوداني، ومن ثم على مصر والسودان التأكيد على أن الأزمة، بصفة عامة، لم تنته، وأن أديس أبابا لم تستجب لهما، مع ضرورة الإصرار على أن المشاركة في أية مفاوضات مقبلة لا بد أن يكون مشروطا بضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم، وإلا فإن معنى هذه المشاركة "شرعنة" ما قامت به إثيوبيا، وقبوله، من عملية الملء العام الماضي، وهذا العام، حتى وإنْ كان ما تم دون المطلوب، ولم تكن له أضرار كبرى عليهما، فالهدف إقرار مبدأ رفض الإجراءات الأحادية، بغض النظر عن حجم الضرر، لأن هذا السلوك سيتكرّر في الأعوام المقبلة، وربما يكون له ضرر كبير في أوقات الجفاف المتوسط وطويل الأمد. ثم، وهذا هو الأخطر، سيشكل سابقةً يمكن أن ترتكن عليها أديس أبابا عند بناء السدود الثلاثة الأخرى على النيل الأزرق أيضا، مندايا وكارادوبي وبيكو أبي، بسعة تخزينية تقارب 138 مليار متر مكعب، ستكون حتما اقتطاعاً من حصتي مصر والسودان.