13 يونيو 2021
السودان ومعضلة المجلس السيادي
يبدو أن عمليات الشدّ والجذب بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري في السودان لن تنتهي سريعاً، ولا سيما عند الخوض في التفاصيل التي تبدأ من هوية الدولة ولغتها ومصادر قوانينها، وصولاً إلى نمط الحكم الانتقالي "برلماني/ رئاسي"، ومن تكون له السلطة العليا، أو بمعنى آخر من يحكم من؟ وكان هذا واضحاً بصورةٍ كبيرةٍ في الوثيقة الدستورية التي قدمتها القوى أوائل مايو/ أيار الماضي لشكل المرحلة الانتقالية ومؤسساتها، حيث كانت فلسفتها الأساسية تقوم، إن جاز التعبير، على نظام حكم برلماني "بدون انتخابات"، على أن يكون الثقل التنفيذي والتشريعي لها وحدها عبر اختيارها حكومة كفاءات وطنية، تكون لها صلاحيات سيادية مثل إعلان الطوارئ، إعلان الحرب، تعليق جزءٍ من وثيقة الحقوق الدستورية، وحتى اختيار مجلس القضاء الأعلى في البلاد بعد موافقة المجلس التشريعي، وكذلك عبر اختيارها بالكامل لمجلسٍ تشريعيٍّ لا يجوز حلّه، مع إلزام نفسها بأن تكون نسبة تمثيل المرأة به لا تقل عن 40%. أما المجلس السيادي، الذي تعلم أنه العقدة الأساسية منذ إطاحة الرئيس عمر البشير، ولا سيما مع تأكيد المجلس العسكري، منذ بداية الأمر، رفضه مشاركة المدنيين، أو أن يكون تمثيلهم رمزياً شرفياً وليس أساسياً، في مقابل اقتراحها أن يكون ذا أغلبية مدنية بمشاركة عسكرية، وهو ما قوبل بالرفض، ما دعاها إلى إفراغه من مضمونه، عبر سحب عديد من صلاحياته لصالح الحكومة، وهو ما شكل جوهر الاعتراض الأساسي للمجلس على هذه الوثيقة التي جعلت مؤسسة الدفاع والأمن خاضعةً للمجلس والحكومة معاً، على الرغم من أنها من أعمال السيادة فقط.
وعلى الرغم من حالة الاعتراض الشكلي والموضوعي للمجلس على الوثيقة، فإن جولتي المفاوضات التاليتين أظهرتا قدراً من المرونة، واتباع سياسة الحلول الوسط في بعض القضايا دون الأخرى، فقد توصل الطرفان إلى حلٍّ وسط، بشأن المرحلة الانتقالية، التي ستكون ثلاث سنوات فقط، وليس أربعاً كما تريد قوى الحرية والتغيير، أو اثنتين كما اقترح المجلس. كما تم
إقرار تشكيل حكومة كفاءات، وفق اقتراح الوثيقة، تختار قوى الحرية والتغيير كامل أعضائها، وإنْ لم يتم تحديد من الذي سيختار وزيري الدفاع والخارجية، باعتبار أن المجلس طالب بأن يكون ذلك حقاً أصيلاً له. وبالنسبة للمجلس التشريعي، فقد تم زيادة عدد أعضائه إلى الضعف "300 بدلاً من 150 وفق اقتراح الحرية والتغيير"، مع إعطائها حق اختيار ثلثي أعضائه فقط، والثلث الآخر بالتشاور مع المجلس السيادي.. وعلى الرغم من أن بيان "الحرية والتغيير" في 23 مايو/ أيار أشار نصاً إلى اتفاق الجانبين على صلاحيات مستويات السلطة الانتقالية الثلاثة ومهامّها، وأنه سيتم نشرها كاملة سعياً إلى الشفافية الكاملة مع أصحاب الحق الأصيل، إلا أنها لم تنشر بعد، كما أن المفاوضات توقفت بسبب التباين الكبير بخصوص المجلس السيادي، وطريقة تشكيله، ونسب تمثيل كل طرف، ومن يرأسه، حيث تمسّك المجلس العسكري بموقفه بضرورة أن تكون أغلبيته عسكرية، وكذلك رئاسته، فيما كان طرح "الحرية والتغيير" أن الأغلبية تكون مدنية، والرئاسة دورية. وعلى الرغم من الاتفاق على تحويل هذا الخلاف إلى اللجنة الفنية المشتركة للبتّ فيه، إلا أن كلا الطرفين عاد إلى نقطة التصعيد، إذ لوّحت قوى الحرية والتغيير بورقة الإضراب والعصيان المدني الشامل، في حين لوّح المجلس العسكري بورقة إجراء انتخاباتٍ مبكرةٍ خلال ستة أشهر فقط، بما قد يمكن الأحزاب التقليدية، والأخرى الموالية للنظام السابق، من الفوز بها، والعودة ثانية إلى تصدّر المشهد من بوابة الانتخابات، كما سعى المجلس إلى فك تجميد النقابات والاتحادات المهنية الموالية للبشير، حتى تكون بديلاً موازياً أو مناوئاً لتجمع المهنيين الذي يشكل الركيزة الأساسية في الحرية والتغيير.
توضح معضلة المجلس السيادي أن المجلس العسكري يرغب، إن جاز التعبير، في نظامٍ رئاسي، يكون هو المهيمن عليه في الفترة الانتقالية، وهو ما يعمّق من أزمة عدم الثقة بين الجانبين. ويبدو أنه يلعب على أكثر من ورقة، منها بروز تبايناتٍ داخل "الحرية والتغيير"،
وخصوصاً بين تجمع المهنيين وبعض الأحزاب التقليدية، كما يلعب على عنصر الوقت، وعودة المطالب الاقتصادية إلى تصدّر المشهد لدى غالبية السودانيين. فضلاً عن مزيد من الدعم، أو حتى الصمت الدولي عما يحدث، وعدم وجود ضغوط حقيقية على المجلس، لتسليم السلطة، حتى الاتحاد الأفريقي أعلن تفهمه الموقف، وأمهل السودانيين مدة إضافية، بدلاً من 15 يوماً، على غير المعتاد في حالات مشابهة. وربما يلقي هذا كله بمزيدٍ من الأعباء على قوى الحرية والتغيير، فهي مطالبة أولاً بالحفاظ على تماسكها الداخلي، وزيادة عدد القوى المشاركة بها عبر ضم قوى أخرى من خارجها. وأخيراً تخليها عن لغة الإقصاء التي كانت واضحةً في وثيقتها الدستورية، وفي خطاب مسؤولين كثيرين فيها.
توضح معضلة المجلس السيادي أن المجلس العسكري يرغب، إن جاز التعبير، في نظامٍ رئاسي، يكون هو المهيمن عليه في الفترة الانتقالية، وهو ما يعمّق من أزمة عدم الثقة بين الجانبين. ويبدو أنه يلعب على أكثر من ورقة، منها بروز تبايناتٍ داخل "الحرية والتغيير"،