خطورة الملء الثاني لسد النهضة على مصر
أثار تصريح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، 19 الشهر الماضي (مايو/ أيار) بشأن الملء الثاني لخزان سد النهضة الإثيوبي، وتأثيره على مصر، الذي قال فيه نصا "لدينا ثقة في أن الملء الثاني لن يضرّ بمصالحنا المائية، فلدينا رصيد كاف من المياه في خزّان السد العالي، ويمكننا التعامل مع الأمر من خلال الإجراءات المحكمة لإدارة مواردنا المائية ... الملء الثاني هو إجراء، والمحكّ الحقيقي هو مدى وقوع ضرر على مصر"، أثار هذا التصريح تساؤلات كثيرة بشأن حقيقة تأثير هذا الملء على مصر، وهل هناك ضرر فعلي أم لا، سيما أن يأتي من رأس هرم الخارجية، وليس من مسؤول صغير في البلاد، كما أنه يتناقض مع أقوال أخرى للرجل تشير إلى وقوع ضرر، منها رسالته إلى مجلس الأمن، في إبريل/ نيسان الماضي، وجاء فيها نصا "الملء الثاني المنفرد بحجز 13.5 مليار متر مكعب في خزّان السد، سيسبب أضرارا كبيرة، بل وكارثية، على دولتي المصب"، كما أنها تتناقض مع تصريحات أخرى لوزارة الري، المعنية بالشق الفني في هذا الأمر.
قد لا تتضرّر حصة مصر من مياه التخزين الموجودة في السد العالي ، ولكن الاقتصاد المصري سيتضرر
كيف يمكن فهم سياق هذه التصريحات؟ وهل هناك ضرر فعلي، أم أن مصر ترفع شعار الضرر للضغط على إثيوبيا للتوصل إلى اتفاق ملزم يضع قواعد محدّدة لعملية الملء، ويسمح بتوفير المعلومات اللازمة عن عملية الملء من أجل القيام بالترتيبات اللازمة لتقليل الضرر الواقع عليها إلى أقصى درجة، ناهيك عن الإدارة المشتركة للسد، ووجود اتفاقٍ ملزم بشأن وجوب اللجوء إلى التحكيم الدولي عند الاختلاف؟ في البداية لا بد من تحديد ما المقصود بالضرر وعدم الضرر الواقع على مصر، هل الضرر المقصود به العطش، أو حدوث نقص في مخزون مياه السد العالي، أم أنه مفهوم أشمل، يتضمن أيضا الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على عملية الملء؟ مفهوم عدم الضرر، وفق رواية الوزير شكري، يعني وجود فائض مياه في خزّان السد العالي (إجمالي التخزين 162 مليار متر مكعب) يكفي لمواجهة أي عملية حجز للمياه تقوم بها إثيوبيا، علما بأنه لكي يتحقق ذلك، يتم حرمان بعض الفلاحين من زراعة بعض المحاصيل ذات الاستهلاك العالي من المياه، الأرز تحديدا في شمال الدلتا. وبالتالي، يعدّ هذا الحرمان ضررا من الزاويتين، الاقتصادية والاجتماعية؛ إذ من شأن التخزينين، الأول والثاني (18.5 مليار متر مكعب، تضاف إليها ثلاثة مليارات تبخر وتسرّب"؛ عدم زراعة أكثر من ثلاثة ملايين فدّان من الأرز، يمكن تصديرها إلى الخارج بعائد يقدرب عشرة مليارات دولار. وبالتالي، لم يتحدث شكري عن هذا النوع من الضرر، تماما كما أنه لم يتحدّث عن الضرر الناتج من شراء مصر المياه الافتراضية (virtual water)، والتي تعني استيراد المياه في صورة سلع ومنتجات من الخارج، إذ تستورد مصر، بحسب البيانات الرسمية لوزارة الري، 30 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية. وبالتالي، إذا كان حديث شكري عن الضرر منصبّا على وجود وفرة مائية في خزان السد العالي، أو عدم عطش المصريين، فهو صحيحٌ من هذه الزاوية، حتى وإن كانت إثيوبيا ستخزّن أكثر من ذلك، فاستهلاك مياه الشرب في مصر لا يزيد عن 5.5 مليارات متر مكعب (10% من حصة مصر من مياه النيل). أما إذا كان الحديث عن الضرر بمعنى عدم زراعة الأرض أو تبويرها "الأضرار الاقتصادية أو حتى الاجتماعية"، فهناك ضرر فعلي لأي حصةٍ من المياه تدّخرها إثيوبيا، فزراعة مليون فدّان تحتاج 5.5 مليارات متر مكعب من المياه؛ وبفرض أن لكل فلاح فدّانا ونصف فدّان، بحسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (9 ملايين فدّان موزعة على 6 ملايين عامل)، وأن هذا الفلاح يعول أسرةً تتكوّن، كحد أدنى من ثلاثة أفراد ؛ فمعنى هذا بطالة قرابة سبعمئة ألف فلاح، وقرابة ثلاثة ملايين مواطن مصري. وهذه النسبة يمكن أن تصبح ثلاثة أضعاف، في حالة الملء الثاني، " 13.5 مليار متر مكعب".
ساهم العجز المائي في تراجع نصيب الفرد في مصر من المياه بصورة مطَّردة مع زيادة عدد السكان من 22 مليون شخص عام 1950 إلى أكثر من مائة مليون شخص عام 2020
إذن، قد لا تتضرّر حصة مصر من مياه التخزين الموجودة في السد العالي من هذه الزاوية، ولكن الاقتصاد المصري سيتضرر. وكذلك ستكون هناك تداعيات اجتماعية بسبب عملية الملء. ومما يفاقم الأمر أن وزارة الري، في بعض الأحيان، قد تحجز المياه في خزّان السد العالي، ولا تصرفها للفلاحين ترشيدا للاستخدام، لكن مع قرب موسم الفيضان والحديث عن "احتمال" فيضان كبير في إثيوبيا، قد لا تتمكّن الوزارة من تصريف كمية كبيرة من مخزون السد للفلاحين؛ لاستقبال الدفعة الجديدة، ما قد يضطرها لتصريف كل جزء من هذه المياه في مفيض توشكى أو الصحراء الغربية، وهو أمرٌ ناجمٌ عن غياب المعلومات الدقيقة عن حجم الفيضان، ما دفع مصر، مرارا وتكرارا، إلى مطالبة إثيوبيا بتبادل المعلومات بشأنه، كما أن تصريف المياه في توشكى يعطي مبرّرا لإثيوبيا بأن لدى مصر فائض مياه، وأن هناك تناقض بين القول والفعل.
إذن، صحيح أن مصر لن تعطش من الملء الثاني لسد النهضة في إثيوبيا، ولكن لديها عجزا مائيا سنويا يقدّر ب 20 مليار متر مكعب، هذا في حالة حصولها على حصتها كاملة من مياه نهر النيل؛ فوفق بيانات وزارة الري والموارد المائية المصرية، تبلغ إجمالي احتياجات البلاد المائية الحالية حوالى 110 مليار متر مكعب سنويًّا، تستورد منها، كما سبق القول، 30 مليار متر مكعب سنويًّا في صورة مياه افتراضية. بينما يبلغ إجمالي الموارد المائية من مياه النيل والأمطار والمياه الجوفية وعمليات التحلية حوالي 59.25 مليار متر مكعب سنويًّا. وهذا يعني وجود فجوةٍ في الميزان المائي بين الاحتياجات (المتنامية) والموارد المائية (المحدودة) تبلغ حاليا 20.75 مليار متر مكعب سنويًّا؛ يتم سداد معظمها من خلال عملية إعادة تدوير مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي، ومن المياه الجوفية المسرّبة من نهر النيل؛ بالإضافة إلى عملية التحلية. ولكن يلاحظ أن عملية إعادة التدوير مكلفة "عدة مليارات"، فضلا عن كونها تؤثر على كفاءة المياه، في حين يتم سداد النسبة الباقية من خزّان السد العالي عند أسوان.
للسد ضرر كبير على مصر اقتصادياً واجتماعياً، ولا ينبغي حصر مفهوم الضرر في حدوث العطش
ساهم هذا العجز المائي في تراجع نصيب الفرد في مصر من المياه بصورة مطَّردة مع زيادة عدد السكان من 22 مليون شخص عام 1950 إلى أكثر من مائة مليون شخص عام 2020، فوفقًا لأحدث بيانات منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، تراجع نصيب الفرد في مصر من 869 مترا مكعبا من المياه عام 1997 إلى 589 مترا فقط عام 2017، ومن المتوقع أن يصل إلى 534 مترا مكعبا بحلول عام 2030، وهو ما يعني نصف مقدار حد الفقر المائي، وفق الأمم المتحدة، والذي يقدّر بألف متر مكعب للفرد سنويا. وبالتالي، أي تناقص في هذه الحصة بسبب ملء السد قد يفاقم العجز المائي بمقدار هذا الخصم؛ ما يعني أن للسد ضررا كبيرا على مصر اقتصاديا واجتماعيا، وأنه لا ينبغي حصر مفهوم الضرر في حدوث العطش، بالنظر إلى النسبة الضئيلة التي يتحصل عليها المواطن من مياه الشرب.
وفي الأخير، يبقى القول إن الوزير ربما هدف من تصريحه إرسال رسالة طمأنة إلى الشعب المصري بعدم حدوث ضرر (عطش) مع قرب موسم الفيضان في إثيوبيا، وتأكيد الأخيرة على أن الملء الثاني سيتم في موعده، على الرغم من عدم التوصل إلى اتفاق ملزم، وفشل المفاوضات في حلحلة هذا الأمر. ولكن في المقابل أرسل الوزير هدية إلى إثيوبيا، بحسب المتحدّث باسم خارجيتها دينا مفتي، تفيد بأنها على صواب، وأن الملء الثاني لن يضرّ بمصر، وبالتالي التشكيك في مصداقية أية تصريحات مصرية مستقبلية بشأن السد. وربما هذه هي الإشكالية التي جعلت شكري يتراجع مرة ثانية عن هذا التصريح، بعد زيادة النقد الداخلي له، ويؤكد وجود ضرر من عملية الملء الثاني!