ناصر بندق وليل سوريّة الطويل
كانت مجرّدَ مصادفةٍ أنْ اكتشفَ الأخُ أنّ أخاه المعتقلَ قد تُوفّي قبل عشر سنينٍ. لكنّ المصادفة هنا ليست طبيعيّةً، والوفاة التي أشارتْ إليّها الوثائقُ، بدورها أيضاً، لم تكن طبيعيّةً.
على مدارِ سِنيّ الاعتقال، لا يتوقّفُ أهالي المعتقلينَ في سوريّةَ عن زيارة السجلّ المدنيّ، متمسّكينَ بما يتبقّى من أملٍ عند حصولهم على بيانٍ من هذا السجلّ، يقول إنَّ أبناءهم المعتقلين ليسوا موتى بعد، هذه هي الطريقةُ "القانونيّة" الوحيدة التي تركها النظامُ السوريّ للأهالي لمعرفة مصيرِ المعتقلين. يحاول النظامُ، وينجح، بهذه الطريقةِ أنْ يجعلَ الأهلَ أيضاً أسرى لديّه؛ أسرى الأملِ برؤية أبنائهم ثانيةً أحياءَ وأسرى الألمِ في الوقت ذاتهِ، الألم الذي يسبّبهُ تخيّلهم لما يعانيهِ أحبّاؤهم من تعذيبٍ. وبهذه الطريقةِ، يُخضِع النظامُ الجميعَ للعذاب من دون أنْ يَفلتَ من يدهِ أحدٌ، قبلَ أنْ يضعَ حدّاً لهذه اللعبةِ الدنيئة، حينَ يُصدرُ قراراً يقضي بنقلِ أسماءِ من قضى تحتَ التعذيبِ لديه من المعتقلين في السجلّ المدنيّ؛ من خانةِ الأحياءِ وإدراجِهم في خانةِ الموتى، مُعلناً بذلك حقيقةَ موتهم. وأهالي المعتقلين بدورهم سيعلمون بذلك مصادفةً في إحدى المرّاتِ التي يذهبون فيها إلى السجلِّ المدنيّ بحثاً عن أملٍ وحيد، وهو ألّا يصادفوا هذه المصادفة.
لقد جعلت العشرُ سنينٍ الماضية حياةَ السوريّينَ كما موتِهم مجرّدَ مصادفةٍ يتجنّبها السوريّون في دوائر السجلِّ المدنيّ، وفي الشوارع وأمام المخابزِ وفي المستشفيات وفي كلِّ مكان... في سوريّة الأسد، حيثُ أصبحت الحياةُ تُعرف بأنّها فقط عكس الموت، أصبح كلُّ شيءٍ غيرَ طبيعيٍّ، بما فيه الصدفةُ.
بحسب عائلته؛ كان الشاعرُ ناصر بندق سجيناً في فرع المنطقة التابع لشعبة المخابرات العسكريّة منذ مارس/ آذار 2014. عشر سنواتٍ وعائلته تبحث عنه في كلّ مكانٍ ولا تحصل على أيّ معلوماتٍ، حتّى جاءت تلك "المصادفة" عندما حصل أخوه في مراجعته الدوريّة السجلِّ المدنيّ على بيانٍ، يقضي بأنّ ناصر قد فارق الحياة بعد سبعة عشر يوماً فقط من الاعتقال في أقبية التعذيب المظلمة لسجون المخابرات سيّئة الذكر!
تختصر قصةُ ناصر بندق حالَ سوريّةَ "التعيسة كعظمةٍ بين أسنان الكلب"، بتعبير الشاعر رياض الصالح الحسين، سوريّة التي أصبحت تبدو مثلَ بقعةٍ سوداء تلطخ جبين العالمِ من بعيدٍ، من دون أنْ تجدَ أحداً لم يتعبْ من الصراخِ ولو من بعيدٍ ويشير إليها، كما فعل ذلك الطفل بالإمبراطورِ العاري؛ ربّما قد أصبح الجميعُ عُراةً؛ أباطرةً وأتباعَاً ولا معنى حتّى لمجرّدِ الإشارة إليهم.
شتاءُ سوريّة الطويل، لمّا يجلبْ معه مواسمَ الخير حتى الآن، وحكاية ناصر بندق التي ظهرت في الإعلام سرعان ما ستمحوها سرعةُ الموت في هذه البقعة من العالم المسمّاة العالمَ العربيّ، حيثُ يتجول الموتُ فيها سعيداً هانئاً بملكوته. لكنْ رُغم ذلك يجب ألّا تكون مجرّدَ خبرٍ إضافيٍّ عن قصص الموت السوريّ المعلنة، خراب حياة إنسانٍ واحدٍ تكفي لخرابِ العالم كلّه.
رفضت الأجهزةُ الأمنيّةُ إعادةَ جثامين المعتقلين انتقاماً، وربما كي لا تصبح دليلاً على وحشيّتها، وأصبح مجردُ المطالبةِ بالجثمان جريمةً تُخيف أهالي المعتقلين
وُلدَ الشاعرُ ناصر بندق سنةَ النكسةِ 1967 في واحدةٍ من قرى السويداءَ لعائلةٍ من أبناء الطبقة المتوسّطة، كان يعملُ في المؤسّسة العربيّة للإعلام، عاشَ مع عائلته في إحدى ضواحي دمشقَ، تحديداً هناك في بلدةِ صحنايا، حيثُ اقتحم رجالُ الأمن بيته بوحشيّةٍ ليعتقلوه، ومنذ ذلك الحين بقيَ مغيّباً في سجونهم. حياتُه هذه التي اختصرناها بمعلوماتٍ قليلةٍ فقدها تحت التعذيب، تهمتُه مساعدةُ أبناء وطنه السوريّين من النازحين الذين لجأوا إلى بلدة صحنايا هرباً من القصفِ والدّمار، لم يحملْ الرجلُ السلاحَ، نعمْ شارك بشكلٍ أو بآخر بالاحتجاجات السلميّةِ المطالبة بإسقاطِ النظام.
هل نحن بحاجةٍ لنعيدَ تكرارَ البديهيّات التي مرّت عليها عشرُ سنواتٍ وأكثر!؟ ... نعم، وسنبقى نعيدها، ليس فقط لنقول منْ كان هذا الشاعرُ، بلْ ولنمنعَ أنفسنا من النسيان. رجلٌ مسالمٌ، أحبَّ شعبه، كان يمدُّ يدَ العون لمن حولَه من السوريّين النازحين إلى حيّه في بداية الثورة، يكتبُ الشعر، وكان موظفاً في إحدى مؤسّسات الدولة التي ادّعى النظام أنّه يدافع عنها.
هكذا تعاملَ هذا النظام مع السوريّين، وهكذا كان مصير نُخبه وناشطيه في البداية، الاعتقال ثمّ الموتُ، وما لبثَ هذا المصيرُ أنْ عُمّمَ على مدنٍ بأكملها، فلم ينجُ أحدٌ بشكلٍ أو بآخر من مصير ناصر بندق أو من مصير المهجّرين الذين كان يحاولُ مدَّ يدَ العونِ لهم، حين اعتقلهُ النظام، ولم يُسعفه الوقتُ كي يعلمَ أنّ هؤلاء المهجّرينَ قد استحالوا إلى ملايين، وظلَّ النظامُ يلاحقهم حتّى توزّعوا في جهات الأرض الأربع، في حين أنّ رفاقَ ناصر من المعتقلين تجاوز عددُهم بحسب منظماتِ حقوق الإنسان حاجزَ المئة والخمسينَ ألف معتقلٍ ومعتقلةٍ، شيباً وشباباً وأطفالاً يافعين.
يروي هيرمان ميلفل على لسانِ بطله إسماعيل في روايتِه "موبي ديك" كيفَ وقفَ على أعتابِ مقبرةٍ لا جثامينَ فيها، أمامَ أهالي المفقودين الذين فقدوا أحبّتهم غرقاً في البحر، ولم يتمكّنوا من دفنهم. كانَ هناك قبورٌ من رخامٍ أسودَ نُقشت عليها الأسماءُ، لكنّها كانت فارغةً من الجثامين. كان الأهالي يأتونها فقط كي يزوروا أسماء أحبّائهم الموتى البعيدين.
لم يجد الشعبُ السوري فسحةَ تنفسٍ كي يحزنَ على أحبّائه، كي يرثيهم بما يليقُ بهم، بعد أنْ عشعشَ الفراغ واليأس المرير في القلوب
"أه يا من يرقدُ أموتاكم بين العشب الأخضر، يا من إذا وقفوا بين الأزهار وقالوا: هنا يرقد أحبّاؤنا، إنّكم لتجهلون الوحشة التي تعشعش في تلك الصدور، أيّ فراغٍ مريرٍ في ذلك الرخام ذي الإطار الأسود الذي ليس تحته رفات".
أمّا الشعبُ السوريّ فقد دفنَ كثيرين من أحبابه في قلبه، بعد أنْ فقدَ الأملَ بإلقاء النظرةِ الأخيرة عليهم؛ سواءً الذين اختفوا تحت ركام القصفِ أو في أقبية الجلّادين أو غرقاً في البحر. الشعبُ السوريّ الذي لم يجدْ فسحةَ تنفسٍ كي يحزنَ على أحبّائه، كي يرثيهم بما يليقُ بهم، بعد أنْ عشعشَ الفراغ واليأس المرير في القلوب.
لا نعرفُ ما الذي سيفعله أهل ناصرَ وهم يطالبون بجسد ابنهم، كإثباتٍ على وفاته ولدفنه بكرامةٍ إنْ كان حقّاً قد تُوفّي، هم يريدونَ حقَّ الحداد، وهذا من حقّهم ومن حقِّ جميع الأهالي الذين فقدوا أحبّاءَهم. لكنّ هذا النظامَ نعرفه جيّداً حتّى التعب. في البداية، أعادَ بعض الجثامين التي تظهر عليها آثارُ التعذيب في محاولةٍ فاشلةٍ لترهيب السوريّين، كما حصل مع جثماني غياث مطر وحمزة الخطيب، وفي ما بعد رفضت الأجهزةُ الأمنيّةُ إعادةَ جثامين المعتقلين انتقاماً، وربما كي لا تصبح دليلاً على وحشيّتها، وأصبح مجردُ المطالبةِ بالجثمان جريمةً تُخيف أهالي المعتقلين.
من الممكنِ فقط لنا الآنَ ونحن نتذكرُ ناصر بندق ونحدقُ في صورهِ وزملائه؛ غياث مطر وباسل شحادة وسلمى عبد الرزاق ورحاب علاوي وغيرهم وغيرهنّ... وكلّ أولئك السوريّات والسوريّين الذينَ حلموا في بداياتِ الحراكِ السلميِّ بالحريّة والعدالة، أنْ نعدَهم بأنّنا لن ننساهم ولن نسامحَ في دمهم، ولن ننسى تلك اللحظةَ وسوف نظلُّ نعملُ من أجلها ونعوّلُ عليها... رغمَ ليلِ سوريّة الطويل!