رؤوسٌ سوداءُ تتراكض
نقاطٌ سُودٌ تتراكضُ، لوحةٌ كاملةٌ بالأبيضِ والأسودِ، ولا مجالَ هُنا للكلامِ عن الألوان. لقطةٌ صغيرةٌ مرّت خطفاً، تفاصيلُ كثيرةٌ، نقاطٌ سُودٌ تُعلنُ عن مجزرةٍ أُخرى في غزّة، ستأخذُ اسماً يميّزها كغيرها من المجازرِ؛ مجزرةُ الطحينِ في شارعِ الرشيد. لا يُجافي هذا التسريب الذي مرّ بوصفه تفصيلاً تقنيّاً في خبرٍ إعلاميٍّ هدفَ الجهة التي بثّته ونشرته، وهو نشرُ الرعبِ واليأسِ والتشفي من الغزيّين.
الرؤوسُ السّودُ التي تقتربُ وتبتعدُ، تتحوّلُ في لحظةٍ واحدةٍ إلى كُتلٍ سُودٍ كبيرةٍ، تجتمعُ أحياناً ثمّ تتفرّق، مثلَ أسرابِ طيورٍ في السماء، تحاول الاجتماع واللّحاقَ بفصولِ ربيعٍ أخرى، لكنّها لا تستطيعُ إتقانَ الحركةِ حتّى النهاية، بسببِ علامةٍ تبدو كعدسةِ قنّاصٍ، ترسُمها الكاميرا المتسلطةُ فوق تلك النقاط.
تزدادُ حركةُ النقاطِ فَزعاً تاركةً فراغاً في مُنتصفِ هذه اللوحةِ المنزوعةِ الألوان، في هذا الفراغِ، كان يكمنُ الهدفُ، أو كان يكمنُ الموتُ، وحيثُ يُبعِدُ ذلك الفراغُ المتشكلِ النقاطَ المتحركةَ عن فمِّ الموتِ ويَحولُ دون تحوّلها في أعيننا إلى خيالاتٍ عن هدفٍ للقاتلِ بالمحوِ.
الرؤوسُ السودُ هذهِ لم تكنْ نُقاطاً هندسيّةً ولا طيوراً، ولا حتّى لعبة كمبيوترٍ، رُغمَ المحاولة التي تبدو أنّها كانتْ ستنجحُ في جعلنا نعتقدُ ذلكَ، إذا ما نزعنا سياقَ حركتِها وتخيّلها عن إحداثيّاتٍ أُخرى، فهيَ لا تبدو إلّا كإشاراتٍ هندسيةٍّ بعيدةً عن سياقِ فعلِ الإبادةِ، وهذا ينفي صفتَها الحقيقيّةَ، عشراتُ الآلافِ منَ الرؤوسِ البشريّةِ التي اجتمعتْ بعد سنواتٍ من الحصار وشهورٍ من الإبادةِ في غزّة، اجتمعتْ وتراكضتْ للحصولِ على لُقمةِ خبزِ... البحثُ عن الطحين، يا للمصادفةِ التعيسة!
همْ حين ينشرون فضيحتهمْ غيرَ مكترثين بالعواقبِ، حين يعلنون عن جريمتهم دونَ أدنى خوفٍ أو رعشةٍ، ينشرون الرعبَ المصحوبَ بالصدمة مرّةً إثرَ مرّةٍ
هذهِ الرؤوسُ البشريّةُ السودُ كانت تبحثُ عن طحينٍ أبيضَ، تبحثُ عن مساعداتٍ غذائيّةٍ تُسقطُ من الجوّ، قد تُبقي بعض الأفرادِ على قيدِ الحياةِ، إنْ حالفهم الحظُّ ولم تسقطْ على رؤوسِهمْ فتقتلَهمْ، كما حصلَ مع الطفلِ مهنّد!
لنتخيلْ أنّها تُصوّرُ من الأعلى عن يومِ الحشرِ، وهذا الحشرُ ليس تدافعاً لتلقّي العقابِ والثوابِ، إنّهُ مجرّدُ تَدافعٍ وتَفرقٍ، سببّتهُ حياديّةٌ باردةٌ لا تحركها سوى غريزةٌ أولى، وأبسطُ حقٍّ عرفهُ الإنسانُ منذُ أنْ وُجدَ، وهو حقّ الطعام، حقّ البقاءِ على قيدِ الحياةِ، وهذا الحقُّ المشروطُ بتدافعِ النقاطِ السودِ كانَ خالياً من أيِّ إضافةٍ أخرى سوى ذلك، ولا يمكن تخيّلهُ أبعدَ من ذلكَ، وهوَ أمرٌ لا يدخلُ في اللوحةِ المسرّبةِ عمداً، وقصديّةُ تسريبِها لم يكن عبثاً، فهيَ درسٌ آخر للطعنِ في الجراحِ وللقول: انظروا، كنّا نعرفُ أنّنا نُبيدكم، فماذا أنتم فاعلون!
إنّهُ استنفارٌ لأقصى درجاتِ العنفِ والغضبِ والقهرِ والعدمِ لدى الضحايا، وهوَ ما يُمكنُ تسميتُهُ بتنكيلِ الجثث، قبلَ الموتِ وبعده، بمعنى تحويلِ الأحياء قبلَ موتِهم إلى لا شيءٍ، إنّهم مجرّدُ نقاطٍ هندسيّةٍ، تتحركُ وتتدافعُ!
وإظهارُ صورةِ هذا التنكيلِ بهذهِ الطريقةِ الملتبسةِ لم يحمل في طيّاتِهِ مؤامرةً بعدمِ الاعترافِ بالجريمةِ، على العكسِ تماماً، هذا التسريبُ إعلانٌ وإقرارٌ ضمنيٌّ بعدم الاكتراثِ! إنّهُ تسريبٌ واضحٌ للعيانِ، ولا لبسَ فيهِ، فالرائي من فوقٍ، يرصدُ النقاط المتحرّكةَ كرؤوسٍ سودٍ، والرائي من تحتٍ وهم الجنودُ الإسرائيليّون المدجّجونَ بأسلحتهم، كانوا يروْنَ فعلاً هذا التدافعَ الذي سبّبه الجوعُ، همْ لم يروا النقاطَ السودَ كأشكالٍ هندسيّةٍ، نحنُ (المتفرّجينَ) نراهم هكذا عن بعدٍ، كلٌّ يرى حركةَ هذه الرؤوسِ من موقعِهِ، وهذا أمرٌ نسبيٌّ، يعتمدُ السياقَ الذي يُغلّفُ حياتَنا في الوقوفِ إلى جانبِ العدالةِ، إنّ أولئكَ الذينَ كانوا حولَ تلك النقاطِ المتحرّكةِ، والتي هيَ بشرٌ منْ لحمٍ ودمٍّ، كانوا جنوداً، يرون البشرَ بأعينِهم قبلَ أنْ يقتلوهم، وهم أنفسهم كانوا يتلقَونَ أوامرهم من أولئكَ الذينَ يرونَ النقاطَ السوداءَ من الأعلى، رغمَ ما ادّعوا في البدايةِ أنّ ما جرى كانَ بطريقِ الخطأِ، نحنُ نعرفُ أنّهم يتلقونَ الأوامرَ، وهمْ قد رأوا الجموعَ المتدافعةَ للحصولِ على لقمةِ الخبزِ، وعرفوا أنّهم جموعٌ مسالمةٌ وجائعةٌ، هذهِ الجموعُ التي نجَتْ مصادفةً من الموتِ قصفاً.
هندسةُ القتلِ الإسرائيليّةِ تنفي صورَ المجزرةِ الملتقطةِ من السماء، ولكنّ الصور الملتقطة من الأرض، من الضحايا ذاتِهم، تقوّضُ محاولاتِ الإمحاءِ هذه، آلياتُ الإمحاءِ ذاتها التي فرضتها رقمنةُ الصورِ ودمقرطتها تعيدُ من جهةٍ أخرى التأكيدَ عليها وتثبتها، ترسمُ لوحةً جديدةً واقعيّةً، ليست تجريديّةً أو هندسيّةً، بلْ لوحةً للجحيم مصوراً وَواضحاً أمام أعينِ العالم.
نقاطٌ سودٌ متشابهةٌ، تراهم الطائرةُ هكذا وعلى العالمِ كلّه أنْ يراهم هكذا، هذا ما تقولهُ هندسةُ القتل
والفراغُ الذي تتركُهُ هذه الرؤوسُ السودُ المتحوّلة إلى أهدافٍ مصغّرةٍ قابلةٍ للتحريكِ، لا تأتي إلّا لتؤكدَ أنّ فتحةَ الرشّاشِ هي نقطةٌ سوداءُ أخرى أيضاً، ولكنّ عينَ الرائي من خلال طائرة مسيّرة من دون طيار لا تساوي بين تلكما القيمتيْنِ المتقابلتيْن؛ قيمة الحياةِ داخلَ رأسٍ بشريٍّ، وقيمة الموتِ خارجهُ من نقطةٍ سوداءَ في رشّاش، أو مصوّرةٍ من عينٍ سوداءَ رقميّةٍ في طائرةِ الروبوت.
نقاطٌ سودٌ متشابهةٌ، تراهم الطائرةُ هكذا، وعلى العالمِ كلّه أن يراهم هكذا، هذا ما تقولهُ هندسةُ القتل! على كلّ العالمِ أن ينتزعَ قلبَهُ، كما هذا الروبوت، وكما هؤلاءِ الجنود الإسرائيليّين.
هذه المحاولاتُ لمسحِ صورةِ الضحايا التي تنتشرُ في عالمنا الآن، والتي تُحاول جعلها مؤتمتةً ونظيفةً، كما يُراد لها، تنجحُ أحياناً في قصرِ الوجدانِ على النظر في فراغِ تلك المساحةِ المطلوبةِ منها، وهي إعادةُ تأهيلِ البشرِ للقبولِ بالمجزرة، لكن تنسى تلك الآلةُ المتوحّشةُ أنّها تحملُ نقيضها وموتها في داخلها، ففي الوقتِ الذي يُشاءُ لنا رؤية هؤلاءِ البشرِ منفصلينَ عن قضيتهم وتكثيفِ معاناتهم عبر هذا التسريبِ الذي حوّل الفلسطينيّينَ لعلاماتٍ هندسيّةٍ لا قيمةَ لها، ونزعَ عنهمْ إنسانيتهم لتجميلِ المجزرة، في هذا السياقِ تماماً يتحوّلُ فعل الإقصاء إلى أداةٍ نشطةٍ جديدةٍ، تجعلُ هذه الغاية أمراً لا يُمكن تمريره، فالمجزرةُ التي قُتلَ فيها أكثرُ من مئةٍ وسبعين فرداً، وهم يطلبونَ لُقمةَ الخبزِ وجُرحَ فيها أكثرُ من سبعمئةٍ آخرين، لا تَنقلُ إلينا صُراخَ الأطفال واستغاثاتهم ولا تُرينا الجثثَ ولا تفتح أحشاءَ الفظاعةِ أمامَ أعيننا، وهمْ وإنْ أرادوا أنْ يُخرسوا الألمَ البشريَّ ورميهِ في كهفِ النسيان، لكنّهم جعلوه أمامَ وجوهنا لِنحدقَ فيه، وهمْ حين ينشرون فضيحتهمْ غيرَ مكترثين بالعواقبِ، حين يعلنون عن جريمتهم دونَ أدنى خوفٍ أو رعشةٍ، ينشرون الرعبَ المصحوبَ بالصدمة مرّةً إثرَ مرّةٍ، ومجزرةً تِلوَ المجزرة، ونحنُ نحدقُ في مستقبل ملايين النقاطِ السودِ التي تتحركٌ فوقَ كوكبِ الأرض والتي تبدو بشكلٍ أو بآخرَ هدفاً ما للتبجحِ بالجريمة! ربّما لذلكَ كان لا بدَّ لهم من الإيغالِ في التنكيل ومسحِ صورة الجريمةِ، عَبْرَ بثِّ صورٍ أُخرى تحاولُ إمحاءَ صورِ الأرض الحقيقيّة، وهيَ صورُ السماءِ التي لا تزالُ تَطنُّ أمامَ أعيننا، كرؤوسٍ سُودٍ تتراكض!