السَّاروت طَائِراً
تَخيّلْ لَو كان عَبدُ الباسط السَّاروت، حَارِسُ مَرمَى فريق الكرامة في حِمْص، قد وُلِد قَبلَ وُصول مارْغريتْ تَاتشَر إِلى السُّلطة، وقبلَ نَجاح الثَّورة الخمينيَّة، وقبل أن يُصبحَ رُونالْد رِيغان رئيساً لِلولايات المتَّحدة، وقبلَ العام المشؤومِ، عامَ السبعين من القرْنِ الماضي، الذي جلبَ التَّعاسةَ لبَلدٍ اِسمهُ سُوريّة.
تَخيُّلْ لَو أنَّ كُلَّ التَّغْييراتِ التي جلبتهَا هذه الأحداث، وَصعَد بِهَا المحافظون، والتي غَيّرتْ وَجْهَ تاريخنا الحاليِّ، لَم تَحدُثْ. وبقيتْ النُّوسْتالوجيا الثَّوْريَّةُ مَحصورةً بأولَئكَ الَّذينَ يتحدَّثونَ عن اليسَار والتَّقدُّمِ والدّيمقراطيَّة. ولو أنَّ هذا العالمَ برمَّتهِ لمْ ينحدرْ بعد نهايةِ السَّبعينيَّات نَحْو أَقصَى اَليمِين والرَّاديكاليَّة! تَخيُّل، يَا - رَعَاك اَللَّه -!
كيف يُمكنُ لكَ أنْ تَتخيَّلَ عَبد الباسط مَمدوح السَّاروت، الفتى الطَّائرُ الذي مرَّ خَطْفاً على هذِهِ الأرْضِ وَرحلَ عَنها وهوَ ما يزَالُ رافعاً جَسدهُ الأسْمرَ وعينيهِ نحو تلك الكُرةِ التي تنتظرُ الدُّخول في الشِّباكِ! ثمَّ تخيّلْ، أَكثَرَ مِن ذَلك؛ أنَّ هذا الفتى الوسيمَ، لمْ يُتقِنِ الأغاني ولَا الرَّقْص، ولم يحوّل ساحاتِ مَدِينَة حِمْصَ إِلى مِساحَاتٍ اِحْتفاليَّةٍ للصُّراخِ بأعلى الصّوتِ منْ أَجْل الحريّة والكرامة؛ كرامَته وكَرامَة ناسِه!
تَخيُّل بسيطٌ، يُمْكننَا من خلالهِ إِعادةُ حياةِ الفتى إِلى سياقِها الطَّبيعيِّ التي كان من المفْروضِ والممْكنِ أنْ يحْياها شابُّ وسيمٌ تألَّقَ بِروحِ الكرامةِ الساطعةِ في عينيْهِ، خرجَ من الأزقّة الفقيرة لحيِّ البياضة وهو يَحلمُ بِالطَّيرانِ مع الكُرة، صُنَّف ثَاني أهمِّ حَارسِ مَرمىً لفئةِ الشبابِ في قارَّةِ آسْيا.
تَفاصيلٌ صغيرَةُ جَميلَةٌ كهذه لحياةِ طفلٍ يكبرُ لن تَشِيَ أبداً بِأنَّ حَيَاة هذا الفتى ستنقلبُ رأْساً على عقبٍ عندما يبلغ التَّاسعة عَشرَةَ، كانَ طفلاً اعتادَ التجوّل في شوارعِ مدينته، مُمْسِكاً بِنشْوةِ حُلمِه وبشغَفه بِكرة قَدمٍ، رُبّمَا ولا يهمُّ إنْ كَانَت آنذاك باليةً أو مُمَزقَة.
السَّاروتُ الصغِيرُ يكبرُ، وَهوَ يَنظرُ إِلى الملعبِ، يُفكِّر فِي تلك الوثبةِ والقفزة واللَّعب مع الهَواء والكرة والسَّماء! يُفكِّر أَنَّه صَاحِب مُهمَّة الدِّفَاع عن مَرْمَاه أَمَام الخصْم، أَمَام الأعْداء! مُهمَّته الدِّفَاع عن شِباكه، وَهِي المُهمَّةُ التي جعلتْهُ يُصدِّق نَفسَه أنَّه مَنذُور فقط لِحماية تلك الشِّبَاك.
الفتى الذِي كان يطيرُ وَيرمِي نَفسَه حارساً لمرمى فريق الكرامة، التحق بالجماهير التي طلبت الكرامة، ليصبح واحداً مِنْهم
الفتى الذي كَبُر فَجأَةً عندمَا اِندلَع الحراكُ الشعْبِيُّ سنة 2011 ظلَّ هُو نفسه فِي كُلِّ مسارَات المَصير التِّراجيديِّ رافقه على مدار سني الثورة، الفتى الذِي كان يطيرُ وَيرمِي نَفسَه حارساً لمرمى فريق الكرامة، التحق بالجماهير التي طلبت الكرامة، ليصبح واحداً مِنْهم.
رُبّما كانت تمثُّلاتُ حَيَاةِ الفتى المتناقضةِ والمتنوِّعةِ والغنيَّة بَيْن الموسيقى والرَّقْصِ والْغناء وَلعِب كُرَة القدم وَحمل السِّلَاح والقتال انعكاساً لحالة انفصالٍ عن الواقع لدى الشّعبِ السّوريِّ بكامله، سبَّبَهُ الأذى الذي ألحقهُ بهِ النظامُ، وربّما كان الانحيازُ المطلقُ للحظة طلبِ الشعب الكرامةَ والتغنّي بها أيضاً ضرباً من الرومانسيّة التي عبّرت عنها تلك اللَّحْظة الشِّعْريَّةُ حينَ يَنطلِق جسدُ الفتى في الهَواء، وقَدَماه تَرتَفعان عن الأرض ويداهُ تمتدّان نحو الكرة، تلك اللَّحْظة الرمزيّة كانَت حقِيقَةَ دِفاعهِ عَمَّا انتفضَ من أجلهِ الشعبُ وعمّا ماتَ من أَجلِه. من دون أنْ يَخفَى علينَا أنَّ كُلَّ مَا بقيَ بإمكاننا رُؤيتهُ منه هي تلك الحرَكةُ التِي أتْقنَهَا وحدها في حياتهِ القصيرة، الطَّيرانُ، محاولةُ الطيرانِ والنظرِ هُناك، حَيْث العدوّ اَلذِي كان قبل قليلٍ فِي الفرِيق نَفسِه. وبعيدًا عن اللَّبْس الفادح اَلذي مرَّ في حَياتِه، حينَ عجِزَ عن تمييزِ الخللِ في الوجود مع أيِّ جِهةٍ اعتقدها تُقَاوِم قَاتلِي أَهلَه ومدينَته. حَتَّى وفِي تلك الفترةِ الأشدّ التباساً وبؤساً لم يكنْ الفتى خارجَ لَحظَتِه الشِّعْريَّةِ ذاتهَا، اللَّحْظةُ الأكْثرَ إِيلاماً وَقسْوَةً، لَحظَةُ القفْزِ في أيِّ اِتِّجاهٍ وَدُون أيِّ دليلٍ، فقط في سبيل الدِّفَاع عن مَرْمَاه.
من يرى السَّاروتِ فِي غَيرِ تلك الوثبةِ، وَثبَة الكرامة، لن يَرَاهُ أبداً، وهُو لَا يُريد أنْ يَرَاه لِسَببٍ أو لآخر
لَقد ظلَّ السَّاروت فِي سَنَوات حَياتِه القصيرة وَهُو يَتَطلَّع إِلى تلك الوثْبة. يَمُدُّ يديْهِ نَحْو الأعْلى، وعيْنَاه مُعلَّقتان نَحْو البعِيد وَهُو يَتَأرجَح في الأعلى. إِنَّ فَظاعَة تلك الوثْبة وصورَته الواضحة حين يرمي نَفسه فِي الهَواء، في الموْتِ، كانَت تحديداً لحظَة إبرازِ شِعْريَّةَ حياتهِ كُلّهَا ومأساتهَا. تلك اللَّحظةُ هِي ما مَيزَت السَّاروتَ عن سِوَاه؛ الشِّعْرُ بِوصْفهِ حَيَاةً وانْتماءً لِلْحالمين والطَّيران نَحْو السُّقوط، الشِّعْرُ كَطَريقَة حَيَاة، أو مَا يُسَميه الآخرون غالبًا بِالْخَبل! وَهُو لَم يَكُن أَبعَد مِن لَحظَة الخبل الجماليِّ تلك وَهُو يطير.
حاولتْ عَيْنُ الفتى مُقَاومَةَ المخْرز! لَكنّها لَم تَنتَصِر عليْه. ورغْمَ ذَلك اِستمَرّ يُحلّق بالعَمى الذي رَافَق اَلعُنفَ من حَولِه، وَمن دُون أن يَتَخلَّى عن لَحظَتِه الطَّائرة تَارِكاً مَسافَةً آمنةً لِسقوطِ جَسدِه الحُرّ ثَانِيةً وَهُو يَقبِض على اَلكُرة. كان يَظُنُّ وَهُو يرى أَهلَه يموتون أمامه أنَّ بِإمْكانه أنْ يَحمِيَ آخر شِباكٍ لَديْه وأنْ يُعيدَ تَرسِيم حُدُودِ مَرْمَاه، وَرُبّمَا كان يَظُنّ أنَّ الطَّيران ذاك مَا هُو إِلَّا طَرِيقَةٌ لِإعادةِ حِياكة الشِّبَاك الممزَّقة، وَهُو الحَدُّ الفاصلُ بَيْن المرْمى والْآخرين، لكنَّه تَعثُّر وأُصيب، فتجمّدَ هُنَاك، طَائِراً! إِنَّه الشَّابُّ الأبَديُّ الآن، لَم يَبلغِ الثَّلاثين، لمْ يُكْمِل حَتَّى عُمْرَ اَلمسِيح.
لَقد صنعَ ذَلك سقْفاً عالياً لِحدود جماليَّات حُبّنَا لَهُ! لَا نَستطِيع أنْ نَقُولَ إِنَّ السَّارْوت اِبْنَ حيِّ البيّاضة كان بالنِّسْبةِ لِلْآخرَ كَبْشَ فِدَاءٍ كمَا يُخْبرنَا رِينيه جِيرار عن رَغبتِنا بِذَلك الآخرِ الذِي نُريد لَه أنْ يَأخُذَ عَنَّا الموْت، الأمْرَ أَبعَد مِن ذَلِك. أيْضاً نَحْنُ نُحِبُّ السَّاروتَ، لِأنَّنَا نُحبّ أيْضاً تلك الوثبة، ونحْبّهُ حيّاً، لأنَّنَا رأيْنَاهُ في جَمالِيّة تلك اللَّحْظةِ وَجسَده أَمَام شِباكِ المرْمى وَهُو يثبتُ تماماً كمَا أردْنَا وَرَغبنَا أن تَكُون تلك الوثبة لَنَا جميعاً. التَّطَلُّع نَحْو ذَلِك السِّحْر، سِحْرُ الكرامةِ وسحْرُ حِمايةِ مَا تَبقَّى لَنَا مِن السَّاروت وأغانيهِ وموسيقاه وألعَاب كُرَته الطَّائرة وَذلك المكَان الذي تَركَه فارغاً! أمامَ شِبَاكِ المرْمى الذي تَمزَّقَ وتمزُّقنَا معه. وَمن يرى السَّاروتِ فِي غَيرِ تلك الوثبةِ، وَثبَة الكرامة، لن يَرَاهُ أبداً، وهُو لَا يُريد أنْ يَرَاه لِسَببٍ أو لآخر.