انقطاعات النوم
لنبدأْ بقصّةٍ قصيرة، سنفترضُ أنّها حكايةٌ بسيطة يرويها الأهل لأبنائهم قبيلَ النوم، عن أطفالٍ يعيشون قربَ البحر في مكانٍ يسمّى غزّة.
عنوانُ القصة: انقطاعاتُ النوم! ... بالتأكيد هذا غريبٌ، ليسَ لأنّ عنواناً كهذا لا يمتُّ على الإطلاق بأيِّ صلةٍ مع رواية خوسيه ساراماغو "انقطاعات الموت"، بلْ لأنّها تتجاوزها في غرائبيّتها حدَّ الذهول، فذلك المكانُ المسمّى غزّةَ، وإنْ كان من السهل حقّاً إيجاده في خرائط العالم، لكنّه اليومَ يمتلك من صفات الخيال أكثر مما يطيقُه الواقع.
في وسعنا اختصار القصّة بجملةٍ قصيرة: أطفالُ غزّة يموتون من انقطاعات النوم! ... يبدأ زمنُ الحكاية من تاريخ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل على وجه التحديد، بعد مرور شهرين على هذا التاريخ، حينَ ذكرتْ صحافيّةٌ أميركيّةٌ هذا الخبرَ، ليتواترَ بعد ذلك الكثيرُ من الأنباء والتقارير التي تخبرنا عن هذا الشكلِ الغريب لموت الأطفال.
موتٌ مبتكر، مصنوعٌ بأناقةٍ ونعومة، لا يمكن مضاهاة وحشيّتهِ إلّا بإخفائهِ هكذا ضمنَ كلماتٍ مجرّدة تشكّل خبراً باردا منزوعَ المشاعر، وكأنّ هذا الموت هو من مضاعفات مَرضٍ شائع انتشر أخيراً، يقول الخبرُ إنّ أطفالَ غزّة يموتون بالسكتة القلبيّة نتيجةً عدم قدرتهم على النوم، وبذلك قد يكونون من المحظوظين الناجين، فقط لأنّ أجسادهم الغضّة لم تتحولْ إلى أشلاءٍ ودماء معجونةٍ بالغبار، كغيرهم من الأطفال القتلى.
موتٌ مبتكر، مصنوعٌ بأناقةٍ ونعومة، لا يمكن مضاهاة وحشيّتهِ إلّا بإخفائهِ هكذا ضمنَ كلماتٍ مجرّدة تشكل خبراً باردا منزوعَ المشاعر
الخبر لا يأتي من مجرّد معلومةٍ إحصائيّة، بلْ الأساسَ فيه يستند إلى تفسيرٍ علميّ بأنّ الرعب الذي سببّته أصواتُ القصف الإسرئيليّ، المستمر هناك أكثرَ من ثلاثة أشهرٍ، رفع معدّلات الأدرينالين في أجسادهم إلى درجةٍ جعلتهم عاجزينَ عن النوم خوفاً وتوتّرا، وهو ما أدّى بدوره إلى تعطل قلوبهم وتوقفها عن العمل. ... هكذا فجأةً ينامون مرّةً واحدة وإلى الأبد، من دون أيِّ ضجيج!
يكتب الصَحافي في "الغارديان"، أرشي بلاند، إن الأرقام التي أكدّتها وكالاتُ الإغاثة الدوليّة للضحايا في القطاع ليست دقيقة وشاملة، ويضيف إنَّ الحروبَ على مرِّ التاريخ دائما ما تبتلع ضحاياها، وهو أمرٌ يعْزوه، كما كتب، إلى ظاهرة ضبابِ الحرب، من دون أن يشيرَ هنا إلى أنّ القصف الإسرائيليّ المستمرَ على البيوت والمستشفيات ومنعَ المساعدات الإنسانيّة هما السببُ الرئيسيُّ لهذه الأعداد من القتلى، في عملية إبادةٍ معلنةٍ وعلنيّة، ويكتفي، كغيره من الصحافيّين، بذكر أرقامٍ باردةٍ مجرّدة؛ هناكَ ثلاثةٌ وعشرون ألفاً لقَوا حتفَهم، سبعةُ آلافٍ ما زالوا مفقودين تحت الأنقاض، 70% من الضحايا هم من النساء والأطفال، منهم عشرةُ آلاف طفل.
إعطاءَ الأرقام هو أسوأ ما يمكن القيام به، لأنَّ الأعدادَ الحقيقيّةَ للضحايا تكون غالباً أكثرَ من العددِ الموثّقِ المُعلن عنه
عشرة آلاف طفل!. ... تتحدّث الاحصائياتُ هنا عن الأطفال ضحايا القصف والجوع فقط، ولا تتحدّث عن أطفال انقطاعات النوم، فهؤلاءِ لم يدخلوا في أعدادِ الضحايا. لم يجرِ أيُّ إحصاءٍ عن موتٍ كهذا، ولا تتحدّث عن أطفالٍ آخرين قتلهم الخوفُ بسكتةٍ قلبيّة، بينما كانوا ملاحَقين من جنديٍّ إسرائيليٍّ أو طائرة كواد كابتر مسيّرة، ولا عن الذين فقدوا أصواتَهم وهم يرون آباءهم وأمهاتهم أشلاءً أمام أعينهم، ولا من فقدوا أبصارهم أو أطرافهم أو من فقدوا كلَّ شيء....
تجربةُ العملِ على التحديق في الموت السوريّ الذي لم يزلْ مستمرّاً بتنويعاته وفنونه، تمكّننا من القولِ بثقةٍ إنّ إعطاءَ الأرقام هو أسوأ ما يمكن القيام به، لأنَّ الأعدادَ الحقيقيّةَ للضحايا تكون غالباً أكثرَ من العددِ الموثّقِ المُعلن عنه، ولأنّ الأشلاء البشريةَ في وحشيّةِ الحرب تستحيلُ إلى أجزاءٍ من تراب، ويصير حديثُ المؤسسات البيرواقرطيّ عن أرقامٍ محضَ هراءٍ، نلجأ إليها أحياناً لتمثيلِ صوت الضحايا، أو لمحاولة استجلابِ العدالة لهم، أو ربّما فقط لنعفيَ أنفسنا من المسؤولية، في محاولةٍ لنخيّط ذلك الجرحِ الغائر في أرواحنا، والذي يُسمّى الذنبَ في أنّنا ما زلنا نعيش!
ولكنْ هل هناكَ من يستطيع أن يدرسَ، على سبيل المثال لا الحصرِ، حالةَ الضحايا هؤلاء؛ الأطفالُ الذين يموتون بهدوءٍ نتيجة توقّف قلوبهم عن العمل؟ كيف؟ وأين؟ كم عددهم؟ الأطفال الذين يعيشون في قطاع غزّة ويسمعون أصوات القصف ويدمّر الأدرينالينُ قلوبَهم، من يستطيع أن يُحصي نبضات أوردتهم قبل انفجارها، من ينظُر إلى فجيعةِ أمّهاتهم، كيف نردّدُ أسماءهم بين الضحايا مع موتهم الأنيق هذا؟ ثم من قرّر أنّهم ليسوا ضحايا لمجرّدِ أنّ القذائفَ لم تمزّق أجسادهم. من يعرفهم أساساً؟ وموتهم لا يدخل في حسابات الأمم المتحدة ولا مؤسّسات العناية بالطفولة، ولا في مقالاتِ كبار الصحافيّين حولَ العالم. موتُهم أنظفُ من التلصّص عليه، ولكنّه يخفي الكثيرَ من خساراتِ الحرب.
ما زال الأطفال في غزّة وجبةً طازجةً على مائدة الموت، طالما بقيَ العالمُ عاجزاً عن فرضِ وقفٍ لإطلاق النار
لنتركْ الحديثَ عن الأرقام وعن المؤسّسات التي تريدنا أن نستوعبَ الكارثة بأدواتٍ إحصائيّةٍ بيرواقراطيّة، فهؤلاء الأطفال الذين سيوصَف من يتبقون منهم على قيد الحياة بأنّهم ناجون، ما زالوا وجبةً طازجةً على مائدة الموت، طالما بقيَ العالمُ عاجزاً عن فرضِ وقفٍ لإطلاق النار. هذه هي الحقيقةُ، إنّهم المستهدفون الأكثرَ هشاشةً، الذين يموتون حقيقةً من الخوف أحياناً ولا يأتي على ذكرهم أحدٌ، إذْ إنّهم يموتون ببراعة.
تكون الكارثة أحياناً صامتة؛ مثل قدرتنا على رؤيتها وابتلاعها في حناجرنا، مثلَ اعتراضنا الخجولِ عليها ومثل عجزنا الدائم حيالها. وفي الوقت نفسه، تنطوي الكارثةُ أيضاً على عدّةِ تمثلاتٍ خفيّةٍ وقائمةٍ ومتكرّرة، فهي من وجهة نظرٍ أخرى تجعلُ من أطفال غزّة، أعصياء على عين المتلصّص من التحديق في أجسادهم، إنّهم بلا اكتراثٍ وبلا درايةٍ يحمون حرمةَ ما تبقّى لهم، ويبعدون الذبابَ عن جراحهم الطازجةِ ويمنعون قلوبَهم الغضةَ أن تستحيلَ إلى مسرحٍ للفُرجة، وهم في ذلك يمضون بهدوءٍ مع كرامتهم جنباً إلى جنبٍ، هكذا مع كلّ تلك الوحشيّة اللامتناهية، ربّما هم، ولسببٍ غامضٍ، يعرفون أنّ تلك الجرائمَ لن تهزَّ الضمير البشريّ إلّا في حال حصوله على المزيد من صور المآسي والمجازر، لكنّ هذا لا يعنيهم، ولم يخطرْ حتّى في بالهم، لقد حظيَ أولئك الذين لم يتحوّلوا إلى أرقامٍ بموتٍ غريب، جعلهم في مرتبة الضحايا اللامرئيّين.
للموتِ مَعنىً كثيفٌ يحضُر دائماً عبر غيابه، كما كان في رواية خوسيه ساراماغو "انقطاعات الموت"، لكنّه في غزّةَ مقيمٌ لَزجٌ لا يفارقُ واقعَ الغزيّين ولا خيالهم؛ كبارهم، وصغارهم، نساءهم، ورجالهم، منذ أن احتلَ القراصنةُ غزّة، ومنذُ أن فرضوا الحصار عليها، هم القراصنة أنفسهم الذين حاولوا منعَ ساراماغو ذاتَه من زيارةٍ لمخيم جنين إثرَ مجزرةٍ سابقة، لا لسببٍ مهمٍّ، سوى روايةٍ كان كتبها بعنوان "حصار لشبونة"، ولم يدرِ ساراماغو وقتها ربّما عن التشابهاتِ التي ستثارُ بين روايته وروايةٍ لم تُكتب بعد، قدْ تكونُ بعنوان "حصار غزّة".