مهمَّات ملحّة في سورية قبل المرحلة الانتقالية
يتطلَّع السوريون اليوم إلى أن تشرف القيادة الجديدة المسيطرة في دمشق على المرحلة الانتقالية، وهم يعطونها شرعية "ثورية" لأداء هذا الدور، خاصّة في غياب أي قوى سورية أخرى تستطيع ملء فراغ السلطة بشقّيه السياسي والأمني، مع مخاوف مشروعة بعودة الديكتاتورية بوجه إسلامي. هناك توجّه ملحوظ لدى القيادة الجديدة لإعادة بناء الدولة السورية، مع أن الكيفيّة غير واضحة تماماً، فهناك شكوك حول نيّة من استلموا زمام الأمور قبول مشاركة فاعلين آخرين في عملية البناء هذه، ويرى بعضهم أن الحالة الحرجة في سورية تتطلّب أن ينفردوا بالحكم في المرحلة المقبلة؛ فهم أوّلاً القوة العسكرية المسيطرة بلا منافس، مع غياب دورٍ فاعل لأي قوى سياسية. وثانياً هناك رغبة دولية وإقليمية بالتعامل مع هذه القوّة، لكن بشرط تحقيق مطالب الأطراف المتدخّلة بالشأن السوري، وقد أبدى قائد غرفة العمليات العسكرية، أحمد الشرع، الرغبة والاستعداد لتلبية الاحتياجات الدولية والإقليمية.
أمام القيادة الجديدة تحدّيات داخلية وخارجية صعبة قبل الانتقال إلى المرحلة الانتقالية، فعلى الصعيد الداخلي هناك مسألة ضبط الأمن أولاً، والقبض على المتورّطين في ارتكاب الجرائم ضدّ السوريين، وتسيير مؤسّسات الدولة، وعودة المهجّرين إلى بيوتهم، وتدبّر الحالة المعيشيّة المتردية لغالبية السوريين. وهنا نشير إلى قرارات متسرّعة وخطيرة لحكومة تسيير الأعمال، مثل رفع الدّعم الحكومي عن السلع الأساسية مثل الخبز والغاز والمازوت والبنزين وأجور النقل، مع غياب الموارد لدى الغالبية الساحقة من السوريين، يضاف إليها الخطط التي تتحدّث عنها الحكومة حول تقليص عدد موظفي القطاع العام لعلاج مشكلة الترهل والفساد، وهذا يعني فقدان عدد كبير من السوريين فرص عملهم، ويضاعف من نسبة الفقر، التي بالأصل تزيد عن 65%. وبالتالي، هي سياسات مستعجلة وغير مدروسة، وتسبق سياسات النظام الهارب في التفقير، وهذا بالضرورة سينعكس على الحالة الأمنية، التي تعجز الحكومة حتى الآن عن ضبطها.
تعاني القيادة الجديدة في سورية من قلَّة الثقة في غير أطرها، العسكريون في معظمهم، ومن فصائل متنوّعة
تعاني القيادة الجديدة من مشكلة قلَّة الثقة في غير أطرها، العسكريون في معظمهم، ومن فصائل متنوّعة، وهناك انتهاكات من عناصر بعضِ الفصائل، وهناك مجرمون جنائيون في الشوارع نتيجة إفراغ السجون، وهناك أشخاص مرتبطون بالنظام السابق ومطلوبون، ومن مصلحتهم الفوضى الأمنية. وهنا نتساءل لماذا لا تعيد وزارة الداخلية عمل جهاز الشرطة، وهو جهاز مدرّب، ومن مؤسّسات الدولة، ويمكنه المساعدة في ضبط الأمن؟ وبالمثل، يجري التعامل مع مؤسّسات الدولة الخدمية وغيرها، إذ عيّنت وزارات الحكومة أوصياء من مقربيها على تلك المؤسّسات، بما يشبه النيّة في السيطرة عليها، ويتناقض مع مهمّة الحكومة في تسيير الأعمال، حتى يتم التوافق على حكومة انتقالية. عيّنت حكومة تصريف الأعمال وزارة دفاع، وأوكلت إليها مهمّة تشكيل جيش وطني للبلاد، وحلّ الفصائل، ودعوة فصائل الجنوب (درعا والسويداء) وفصائل الجيش الوطني التابعة لتركيا، إضافة إلى "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، إلى الانضمام تحت راية الجيش الجديد، وهنا أيضاً يحضر التساؤل حول إمكانية دعوة الضبّاط المنّشقين عن النظام السابق، وعددهم ليس قليلاً، وحتى الاستعانة بضبّاطٍ من الرتب الأصغر والقطع العسكرية التي رفضت القتال في معارك الطريق إلى دمشق الأخيرة، وساهمت في حفظ الأرواح. الخيار الأخير مهمّ، لأن بناء جيشٍ وطني يحتاج إلى خبراتٍ عسكرية تختلف عن خبرات الحالة الفصائلية، ومهمته سيادية هي الدفاع عن الوطن من الاعتداء الخارجي، وتنفيذ الاتفاقيات الدولية، وهي مهمة حسّاسة في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة على الأراضي السورية كلّها.
تبدو مهمّة إكمال السيطرة على منطقة شرق الفرات، والتحاور مع قوات سوريا الديمقراطية، ودمجها في الجيش الوطني، من المهمّات الصعبة، وهنا يحضر الدور الأميركي، الذي لا يزال يعتمد على تلك القوات المحلّية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إضافة إلى التصعيد بين الفصائل المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، واشتراط الأتراك طرد الأخيرة العناصر غير السورية من حزب العمّال الكردستاني من صفوفها. إن ضمَّ مناطق شرق الفرات أيضاً مرهونٌ بقدرة السلطات الحاكمة في دمشق على ضبط الأمن في مناطق سيطرتها وحسن إدارتها، وإقناع واشنطن بقدرتها على تولّي محاربة فلول "داعش"، وتحقيق شروط أميركية متعلّقة خاصّة بالابتعاد عن إيران، وألا تشكّل سورية تهديداً لدول الجوار، وتحديداً إسرائيل، وربّما تحقيق شروط أخرى تقيّد حجم النفوذ التركي في سورية.
نجاح القيادة الجديدة في مهماتها الداخلية قبل المرحلة الانتقالية هو خطوة أساسية في طريق بناء دولة سورية قوية ذات سيادة
تتوافد الوفود الغربية والإقليمية والعربية للقاء الشرع في دمشق، ولكلّ طرفٍ شروطه لدعم الحكم الجديد وإعطائه الشرعية، وطرح المبعوث الأممي إلى سورية، مستنداً إلى بيان العقبة في 14 الشهر الجاري العودة إلى تنفيذ البيان الأممي 2254، وتشكيل هيئة حكم انتقالي من النظام والمعارضة، رغم غياب النظام، أي هم يضغطون من أجل وصاية دولية على سورية، تشرف على العملية الانتقالية. إن الأداء الرديء للأمم المتحدة تجاه سورية، وتمريرها مجازر نظام الأسد، وعجزها عن تطبيق القرار الأممي المقرّر في 2015، يقود السوريين إلى رفض الوصاية الدولية تلك. وحتى يتحقّق ذلك يبدو أن الطريق إلى ملء الفراغ الدستوري في حكومة دمشق يجب أن يمرّ عبر الشعب، أي عبر مراهنة الشرع ومن معه على الحفاظ على التأييد الشعبي الذي حظي به مع دخوله دمشق. هذا يعني أن عليه تقديم برنامج أكثر وضوحاً عن المرحلة الانتقالية، وعن إشراك جميع السوريين فيها، بعيداً عن تمثيلاتٍ طائفية وعشائرية كان يعتمدُها نظام الأسد، وليست في صالح السوريين، كما أن على حكومة تسيير الأعمال التراجع عن القرارات الاعتباطية حول رفع الدعم، ونيّتها تسريح الموظفين، واعتماد الخصخصة وحرّية السوق، والتي يعتمدها نظام بشار الأسد بشكل موسّع منذ استلامه الحكم، وكانت من مسبّبات زيادة إفقار السوريين؛ إن أي قرارات من هذا النوع يجب أن تستند إلى دراسات يُعدُّها مختصّون بالشراكة مع مراكز الأبحاث الأممية، والتي بالضرورة تأخذ بعين الاعتبار ألا يجري المساس بحاجات المواطنين الأساسية.
إن نجاح القيادة الجديدة في مهماتها الداخلية قبل البدء بالمرحلة الانتقالية هو خطوة أساسية في طريق بناء دولة قوية وذات سيادة، ويعطيها حصانة ضدّ الإملاءات الخارجية، في حين أن الفشل سيعني العودة إلى الفوضى، وإلى اقتتال أهلي لا تُحسب عُقباه، في ظلِّ استمرار الحالة الفصائلية من جهة، وتفاقم نسبة الفقر من جهة أخرى.