في مستقبل الدَّور الإقليمي الإيراني

03 ديسمبر 2024
+ الخط -

من الصعب تكهن مآلات التصعيد الدائر بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والمحمول على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة منذ عملية طوفان الأقصى. لكن البحث في طبيعة العداء بين طهران وتل أبيب، ومن خلفها واشنطن، تظهر أنّها لم تكن أصيلة، أو أنها كانت حالة عداء لا تخلو من توافقٍ في المصالح؛ إذ لا حدود مشتركة تجمع الطرفين، والصراع الأساسي في المنطقة هو صراع عربي- صهيوني، ليس لإيران مصلحة فيه، وهنا نستذكر صفقة التسليح التي أرسلتها إسرائيل إلى نظام الخميني في مطلع الثمانينيات بقيمة 500 مليون دولار، دعماً عسكرياً ضد نظام صدّام حسين في العراق في الحرب الإيرانية- العراقية.

يفسّر هذا عدم انخراط إيران المباشر والواسع في الحرب مع إسرائيل بعد "طوفان الأقصى"، والاكتفاء بحرب الإسناد عبر أذرعها في لبنان واليمن، وتغليب البراغماتية النفعية على الإيديولوجيا، رغم عقيدتها الصلبة التي تحمل لواء تحرير القدس، وتقول بموت إسرائيل. استغلت طهران حالة عدم الاستقرار في لبنان والعراق وسورية واليمن، وبنت مليشياتها باسم المقاومة؛ وتوافق هذا الدور مع رغبة واشنطن وتل أبيب في تفتيت هذه الدول، وتحويل الصراع فيها، الذي هو صراع شعبٍ ضد طبقة مسيطرة، إلى صراع طائفي بمشاركة قوة طائفية أخرى. وبالمثل، تبنَّت مليشياتُها محاربة إسرائيل، وهذا كثيراً ما كان يصبّ في مصلحة تل أبيب وواشنطن لجهة تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع إسرائيلي إيراني غير أصيل، ويحمل تبادلاً نفعياً أكثر ما يحمل عداءً.

لكن طهران تمادت في تضخيم أذرعها، كما تمادت في بناء منظومتها الصاروخية وطائراتها المسيرة وبرنامجها النووي، وبات دورها الإقليمي يشكل خطراً على أمن إسرائيل وينافسها في السيطرة على المحيط العربي؛ وهذا استدعى بعد "7 أكتوبر" (2023) تكثيف الضربات لهذه الأذرع ولإيران نفسها، وإعادتها إلى مربّع التوازن الأول، من دون الاستغناء عن أدوارها التخريبية. هكذا يمكن تفسير توقيت الهدنة في لبنان، والتي دخلت حيز التنفيذ صباح الأربعاء الفائت؛ إذ تمكَّن الكيان الصهيوني من توجيه ضربات كانت قاصمة ودقيقة له، بعد تفجيرات البيجر ومصرع قيادات الصفين الأول والثاني للحزب وأمينه العام حسن نصر الله، وتقييد قوة الردع الصاروخية، حيث كانت ردود الحزب إلى العمق الإسرائيلي متواضعة مقارنة مع حجم الدمار والقتل الذي تقوم به إسرائيل، إضافة إلى التوغّل الإسرائيلي في خط القرى الأول جنوب لبنان. ويبدو أن حكومة الكيان الإسرائيلي قبلت بالهدنة التي بدأت صباح الأربعاء الفائت، بعد أن حققت العملية العسكرية على جنوب لبنان أهدافَها، بإبعاد الحزب إلى شمال الليطاني، وقطع الحدود السورية اللبنانية؛ فيما قبل الحزب بالهدنة متخلّياً عن شرط وحدة الساحات مع غزّة، وحتى يحافظ على ما تبقى من سلاحه المتوسّط والخفيف، ويتجه إلى ترتيب وضعه اللبناني الجديد، والحفاظ ما استطاع على عناصر قوته، وبالتالي على نفوذ طهران في بيروت.

التركيز حالياً على تحجيم مليشيات إيران في سورية، وربما من دون إلغائها تماماً، وقد يمتد ذلك إلى العراق

استطاع بايدن كبح شهيّة نتنياهو على الاستمرار بالحرب على لبنان، وقدّم له صفقة بيع أسلحة بقيمة 680 مليون دولار، لمواجهة انتهاكات حزب الله لوقف إطلاق النار، ولإبقاء يد إسرائيل هي العليا، خاصة أن حال الحزب اليوم ليست كحاله في العام 2006، وهو مضطر لتنفيذ البنود والانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني. من جهةٍ أراد بايدن بالتهدئة في لبنان أن يحقق إنجازاً لإدارته الديمقراطية في شهرها الأخير في البيت الأبيض، ومن جهة أخرى ما زال دور حزب الله مهماً لواشنطن في لعبة التوازن الطائفي في لبنان، وبالتالي المطلوب أميركياً لجم الحزب وإبعاد خطره الأمني عن إسرائيل، وليس إلغاءَه، وهذا بعكس التعاطي مع حماس في غزّة.

في سورية، تَقدَّمَت فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام، بدعم تركي، ودخلوا حلب دون قدرة لجيش النظام على ردعهم، وهذا يُنبِئ بدرجة الضعف الذي باتت عليه مليشيات طهران الداعمة للنظام، وهي المسيطرة على حلب وريفها، وبالتالي، تغيرت معادلة توازن القوى في الداخل السوري بعد الضربات الإسرائيلية للمليشيات التابعة لإيران وسلسلة الاغتيالات، وصولاً إلى ضرب حزب الله في لبنان وانسحاباته من مواقعه في سورية. ويبدو أن المجتمع الدولي يجد الوقت ملائماً لترتيب توافق ما في سورية، يبعدها عن الحضن الإيراني، بوصفها ممرّ عبور لسلاح إيران ومليشيات من العراق إلى لبنان، وفيها أقامت طهران معسكرات مرتزقتها ومصانع أسلحتها. وإذا كانت طهران، ولا تزال، تراهن على قدرتها على حشد الطائفة الشيعية في لبنان والعراق، فإنها في سورية وضعت كل رهانها على استمرار نظام الأسد في الحكم، حيث لا تملك حواضن طائفية وازنة تدين لها بالولاء، بل كسبت عداء الشعب السوري بدورها التخريبي والطائفي إلى سنوات طويلة قادمة.

تجاوزت إيران حالة التبادل النفعي في عدائها إسرائيل والغرب، إلى طموح لدور إقليمي ينافس الدور الإسرائيلي

من الواضح أن التركيز حالياً هو على تحجيم مليشيات إيران في سورية، وربما من دون إلغائها تماماً، وقد يمتد ذلك إلى العراق، وبالتأكيد ستستمر الضربات على جماعة الحوثيين في اليمن، بمشاركة طائرات أميركية قادرة على حمل قنابل خارقة للجبال، كما حصل قبل أسابيع. هل سينتهي ذلك بضربة كبيرة للمشروع النووي الإيراني؟ ما زال هذا الاحتمال بعيداً عن التوقع، فتصريحات مسؤولي إدارة ترامب المقبلة تقول بسياسة الضغط الأقصى وتشديد العقوبات والعزلة على طهران؛ كما أن توجيه ضربة أميركية للبرنامج النووي غير مضمونة النتائج، ولا تمنع طهران من إعادة بنائه، فيما أصبح توجّه الأخيرة منذ انتخاب مسعود بزشكيان رئيساً هو صوب التفاوض مع واشنطن، وكان تصعيدُها عبر مليشياتها وحرب الإسناد مجرد أوراق تفاوض مع الغرب، ويبدو أن إسرائيل تنجح في سحبها بدعم أميركي وغربي.

تجاوزت إيران حالة التبادل النفعي في عدائها إسرائيل والغرب، إلى طموح لدور إقليمي ينافس الدور الإسرائيلي، وربما اعتقدت أن روسيا والصين ستدعمانها، وهذا لم يحصل، حيث لا مصالح للدولتين بدخول حربٍ ضد إسرائيل. لا يزال الغرب بحاجة إلى دور إيران وأذرعها في المنطقة، لمواجهة الثورات الشعبية المحتملة، ودفع دول الخليج إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي بحجّة ردع إيران. بالنسبة لطهران، لن تتخلى عن طموحها الإقليمي وفكرة تصدير الثورة بإعادة بناء أذرعها، التي تتبنى إيديولوجية تحرير القدس وتهديد إسرائيل، في الدول العربية التي تعاني من اضطراباتٍ سياسيةٍ واقتصادية؛ في حين أن المطلوب أميركياً دور إقليمي محدود ومضبوط لإيران في شرق أوسط جديد.