سورية الجديدة وغيابُ الشعب
بعد 12 يوماً فقط، وبأقل المعارك، ترك بشّار الأسد سورية هارباً، وقد صار جيشه عارياً بخسارته مساندة المليشيات الإيرانية له على الأرض، إثْر تعرُّضها إلى ضرباتٍ إسرائيليةٍ مكثَّفة في سورية منذ عملية طوفان الأقصى في فلسطين، وتحجيمِ حزب الله في لبنان، وخسارة الأسد دعم روسيا العسكري والسياسي، بسبب إنهاكها في الحرب على أوكرانيا. استعدَّت هيئة تحرير الشام مع فصائل أخرى لهذه اللحظة بقيادة أبي محمد الجولاني، وقد صار اسمُه أحمد الشرع، وهاجمت حلب التي سقطت من دون قتال؛ هذا الانكشافُ لهشاشة جيش النظام جعلَ حلفاءَه، إيران وروسيا وحزب الله وكذلك العراق، ينكفئُون عن مساعدته. قدّم الجولاني صورة مقبولة في إدارة حلب، وقد أحسن قراءة التركيبة الاجتماعية للمدينة، لكنه فوجئ بأن الطريق مفتوحة إلى حماة وحمص فدمشق، وأمامه تحدّيات كبيرة اليوم للسيطرة وإدراة البلاد.
ارتهنت قدرة الجولاني على ملء الفراغ والسيطرة بعاملين: الأول، خارجي، حيث حصل على دعم لوجستي من أوكرانيا بتدريب مقاتليه على استخدام المسيَّرات، ومساعدة تركية، ليست بعيدة عن تنسيقٍ مع أميركي، وربما يدعمه آخرون. والثاني، ذاتي يتعلق بتركيبة هيئة تحرير الشام بوصفها تنظيماً أساسياً سلفياً وقاعدياً، وتجربة حكمها في إدلب منذ 2019، توضِّحُ أن لها جانباً كبيراً من الاستقلالية، فضلاً عن قدرتها التنظيمية العالية، على عكس فصائل الجيش الوطني في الشمال، والتي تتبع مباشرة للقرار التركي؛ ولم تحرّكها تركيا لملء الفراغ في مناطق الأسد. تحرُّكُ فصائل الجيش الحر، تحت اسم "فجر الحرية"، كان محدوداً، للسيطرة على مناطق لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في حلب وريفها في تلّ رفعت. هذا يعني أن ما حصل يجري من دون توافق دولي أو إقليمي بالتأكيد، خاصَّة أن الجولاني مصنَّف في قوائم الإرهاب، رغم وجود تنسيقٍ تركيٍّ مع الهيئة وغطاءٍ أميركي، كما أشرت.
يتعاملُ المجتمعُ الدولي مع ما يحصل في سورية، بمثل ما تعامل مع نظام الأسد، أي تركُ الأمور تتفاعل وحدَها إذا لم تمسَّ بمصالح الدول المتدخلة. سيحكمُ الجولاني جزءاً كبيراً من سورية الآن، وهم يراقبون تجربته. تركيا مهتمّة بالدرجة الأولى، كما كانت في عهد الأسد، باستكمال السيطرة على الشريط الحدودي لها مع سورية، وإيران جرى إخراجُها من سورية في المرحلة الحالية، وروسيا يتراجع نفوذُها بسقوط نظام الأسد، ولم يتبق لها سوى قواعدها العسكرية، وهي حليفةٌ لإسرائيل. استغلت الأخيرة الفرصة واعتدت على الأراضي السورية، فاحتلت المنطقة العازلة في جبل الشيخ معلنةً انهيارَ اتفاق فضِّ الاشتباك لعام 1974، وقصفت كلّ ما تبقى من عتادٍ عسكري ومطارات حربيّة تخصّ الجيش السوري، خشية وقوع هذه الأسلحة بأيدي مجموعات إسلامية قد تتبنّى تحرير القدس في ظل الفوضى الحاصلة، ومستكملةً بذلك القضاء على إمكانية بناء جيش وطني، والذي بدأه الأسد بإضعاف الجيش حين وجَّهه إلى المدن والبلدات التي عارضته.
العقلية الإقصائية للجولاني في المرحلة الانتقالية خيار خاطِئٌ، ويبدو أنّه لا يثقُ بغير حكومة الإنقاذ في أداء هذه المهمة
أما ترك سورية إلى الفوضى فهي السياسة المفضّلة لواشنطن في المنطقة، مع ضمان ألا تخرُج هذه الفوضى عن الحدود، أو تهدّد أمن إسرائيل، وقد حقّقت هدفها بكسر محور المقاومة الإيراني، وضمان ابتعاد سورية عنه في المرحلة المقبلة. صرح الأميركيون بأن علاقتهم بـ"قسد" تأتي في إطار تبنّي التحالف الدولي تلك المجموعة لمنع عودة "داعش"، وقد يسعى الأميركيون إلى اتفاق بين الهيئة في دمشق و"قسد"، والطرفان الأخيران معتادان على التعامل بما يخصّ تمرير البضائع والنفط عبر المعابر الحدودية في الشمال.
فرح السوريُّون بانسحابات جيش نظام الأسد وانتهاء حكمه. هدَّدت انتفاضة السوريين نظام الأسد مطلع 2013، وقد وصل الجيش الحرّ إلى مشارف ساحة العباسيين في دمشق، إلا أن دخول مليشيات إيران لدعم الأسد حينها في القصير، ثم تدخل روسيا رسمياً في 2015، يضاف إلى ذلك فوضى العسكرة، وسيطرة الإسلاميين على تنويعاتهم، بسبب التمويل والتسليح الذي تلقوه، وقدرتهم التنظيمية، وتبنّيهم سياسة تحرير المدن، بدلاً من حرب العصابات، وردُّ النظام بتدمير تلك المدن وتهجير أهلها، واعتقال وقتل وتهجير الناشطين في مناطق سيطرته، أنهى ذلك كله دور الشعب في الثورة، وباستثناء انتفاضة السويداء التي استمرّت أكثر من عام، وتظاهرات إدلب ضد حكومة الجولاني وأمنييه بضعة أشهر، لا دور للشعب فيما يحدُث، إلا إذا اعتبرنا حماسَ الشبان في إدلب للتطوع في الهيئة خلال عملية ردع العدوان مشاركة شعبية مؤقتة في الحالة العسكرية.
لم يتحدّث الجولاني عن الديمقراطية أو مشاركة الشعب السوري في القرار، بل اكتفى بالحديث عن الشورى، أي بين شرعيي هيئة تحرير الشام
يُحاول الجولاني أن يسيطر عبر الهيئة على المناطق التي كان يحكمُها الأسد إضافة إلى إدلب. وفي مقابلته أخيراً مع CNN، وخطاباته التالية، يمكن رؤية ملامح الدولة التي يتخيَّلُها، وأعتقد أنها إسلامية مع اعتراف بوجود طوائف مختلفة، وبالتالي، رؤيته التقليدية للمجتمع طوائف وبنى تقليدية، لا مواطنين، ستمأسس طائفية الدولة. يجادل بعضهم أنه سيكون أكثر انفتاحاً مما هو عليه في حكم إدلب، إلا أنه اختار حكومة الإنقاذ التي تعمل في إدلب حكومة مؤقتة ثلاثة أشهر لترتيب الوضع الانتقالي، من دون إشراك أية أطراف أخرى من معارضين أو من تنظيم مجلس سوريا الديمقراطية شرقي الفرات، أو درعا والسويداء أو ممثلين عن مناطق الشمال، بل اكتفى بالاستفادة من بعض وزراء حكومة النظام السابق لمساعدة وزرائه في تسلّم الحكم. هذه العقلية الإقصائية في المرحلة الانتقالية خيار خاطِئٌ من الرَّجل، ويبدو أنّه لا يثقُ بغير حكومة الإنقاذ في أداء هذه المهمة. من المؤكّد أن الهيئة وشرعييها سيصادرون أيضاً تحديد هوية الدولة السورية، والذي يحتاج نقاشات موسّعة. يبدو الرجل مربَكاً في هذا الأمر بالتحديد، فرئيس حكومته المؤقتة يضع خلفه علم الثورة الأخضر إلى جانب علم هيئة تحرير الشام، فيما قواته على الأرض في شوارع العاصمة والمدن الأخرى تضع علم الهيئة، وبالكاد ترى العلم الأخضر إلّا على السيارات المدنية ومع الناشطين. وهذا يعني أن الصراعات لم تُحسم بعد حتى داخل الهيئة. يناقض انتشارَ علم الهيئة نيَّة الجولاني بحلِّها وإنهاء الحالة الفصائلية. ويقول مجملُ المشهد إن الرَّجلَ الذي تغلَّب على صراعاتٍ كثيرة داخلية في إدلب، وتفرَّد بحكمها بعد إقصاء عناصر "القاعدة" واعتماده على مقاتلين سوريين، لا يستطيع الوثوق، في المرحلة الحالية بغير مقاتلي الهيئة وحكومة الإنقاذ، لتثبيت حكمه في دمشق.
تجنّب الجولاني في مقابلاته أخيراً الحديث عن موقف سورية الجديدة من الكيان الصهيوني، وتجاهل الاستباحة الإسرائيلية أخيراً كل الأراضي السورية. لم يتحدّث عن الديمقراطية أو مشاركة الشعب في القرار، بل اكتفى بالحديث عن الشورى، أي بين شرعيي "الهيئة". واللافت أن دور الشعب مغيّب عن الفعل في هذه المرحلة، والشعب منشغلٌ في البحث عن مصائر أبنائه المختفين في معتقلات النظام السابق بعد أن فُتِحَت، ومشغولٌ في العودة إلى المنازل وملاقاة الأقارب بعد غيابٍ سنين طويلة، وفي تأمين أموره الخدمية اليومية، وانتظار ما سيفعله الجولاني في ظلِّ تسارع الحدث وصعوبة استيعابه.