29 مارس 2024
كورونا: نهضة نمط الإنتاج الآسيوي
حينما اجتاحت كورونا الصين، جلس العالم يتفرّج على التنين يصارع مرضه. البلدان الفقيرة والمستهلكة لمنتجات العلوم الحديثة تبحلق تقريبا بلا مبالاة، والبلدان الرأسمالية التي تصعد فيها الأحزاب القومية كل يوم بثبات أكبر تفرك يديها طوْرا، وتراقب الاختبار القاسي الذي يخضع له التنين طورا آخر: هل ستعرّي كورونا التنين؟ هل ستمرّغ أنفه في التراب، عندما يعجز ماديا وتنظيميا وذهنيا عن معالجة نفسه؟ هل سيجثو على ركبتيه، وتأخذ، هي وزعيمتها أميركا التي صنفت رسميا الصين عدوا استراتيجيا، قصب السبق؟
المفاجأة المدوية أن التنين، بعد صدمة الانتشار الأولى، عالج نفسه بسرعةٍ مذهلة، بتنظيمٍ محكم، وبوسائل ضخمة جدا، وبعزيمة من حديد، وبانضباط رسمي وشعبي منقطع النظير. وفي المقابل، تعرّى "الغرب" على كل مستويات التنظيم والانضباط ووفرة الموارد ورجاحة القرارات السياسية وتوقيتها. وبدأت يد سوق آدام سميث الخفية، السوق الذي يصنع قيمة الإنسان بمفاهيم الكلفة والربح والخسارة، يوجّه من الخلف الخيارت، ويرتّب درجات الخطورة، ويُحضر الناس كي يستعدّوا للحزن على من لم يعد يرى فيهم السوق ومؤسساته منفعةً ربحية مؤكدة: "استعدوا لتوديع أحبابكم"... آبائكم وأمهاتكم الكبار الخارجين من الخدمة! ها هي إيطاليا التي تنتمي إلى مجموعة الدول المصنعة الكبرى، ولا يزيد عدد سكانها عن مقاطعة متوسطة في الصين، تجثو على ركبتيها أمام كورونا، وها هي ألمانيا ترتعد وتجتهد، وها هي فرنسا وإسبانيا في اللايقين. أما السوق الأميركية فقد حاولت السطو على مختبر ألماني، لتصنع لمصلحتها الخاصة لقاحا لكورونا.
هل نجاح الصينيين وارتباك دول أوروبا وربما أميركا من قبيل المصادفة؟ في خطابه الذي
اعترف فيه بالنظام الحاكم في الصين سنة 1964، وصف الرئيس الفرنسي في حينه، شارل ديغول، هذا البلد بأنه "أقدم من التاريخ ذاته"، وغير عادي ومعقد. ولكن، هل الصين فعلا معقدة؟ بحسب هيغل وماركس وكبار منظّري الحداثة الغربية، وربما حتى ميشال فوكو، نعم هي كذلك. لماذا؟ لأنها من منظورهم لا تشبه أوروبا: الدولة المركزية البيروقراطية فيها قديمة جدا، وهذه الدولة لم تكن من صنع البورجوازية الليبرالية التي وحّدت المقاطعات الفيودالية الأوروبية بشعار "دعه يعمل دعه يمر"، ولم يخرج منها العقل تاريخا نابوليونيا، ليلتقي به هيغل على أبواب ألمانيا المحافظة، ولا يمكن تصنيفها في واحدةٍ من حلقات تعاقب أنماط الإنتاج التي عرفها التاريخ البشري بالمعنى الماركسي للعبارة، فلا هي كانت في زمن ماركس وأنجلز وكانتْ، ولا إقطاعية، ولا رأسمالية. ماذا كانت إذا؟ شيء آخر: نمط إنتاج آسوي، دقّق فيه لاحقا كارل فيتفوغل، ليكون نمط إنتاج قائما على إدارة الري في مجتمعات فلاحية.
في التحليل الماركسي، كما طوّره فيتفوغل، ليخرج به من حدود آسيا، وكما أثاره لاحقا بارنغتون مور وحتى بري أندرسون، أساسُ هذا النمط من الإنتاج هو إدارة الري الذي تقوم به دولة مركزية (إمبراطورية) قوية. تستخدم هذه الدولة جيشا ضخما من البيروقراطيين والتقنيين، وتلتحف بإيديولوجيا تمجّد التضحية والاستعداد للخدمة العامة. وتكمن قوة هذا التنظيم في أن حياة الفلاحين رهينة بقدرة الدولة على إدارة شؤون الري، سواء بتوفير الماء أو بحماية السكان من الفيضانات، بحيث تسقط الدولة – الامبراطورية أو تتجدّد وتستمر، بحسب درجة نجاحها في هذه المهمة، التي إما أن تجلب لها الموارد والقوة، أو تقود إلى إفلاسها وتداعيها. وكما أن الري حيوي للفلاحين، فإن مفتاح صيانته وتوفيره حكر على الدولة وجيش موظفيها الجرّار. في هذا النظام المُحكم، لا مكان لحرية فردية منفلتة، مفعمة بالرغبة الجامحة في تحقيق المصلحة الفردية، فمنظومة الري وقيامها وخرابها، وخصوصا رهاناتها السياسية والعلمية، أضخم بكثير من قوة الأفراد وحتى الجماعات، الذين لا يستطيعون تسخير الفلاحين للعمل في صيانة شبكات الري، كما تفعل ذلك الدولة المستبدّة، اعتمادا على القوة، وعلى إيديولوجيا الانضباط والتضحية التي تديرها، وعلى شبكة الموظفين والمهندسين المُكلفة.
لقد تطورت الصين منذ وصف علماء الغرب، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نمط إنتاجها وحياتها، وأصبح لها اليوم اقتصاد رأسمالي ضخم في طريقه إلى الهيمنة على العالم، لكن
خاصيتها الأصلية لم تغادرها، فالمنفعة الفردية التي صنعت إيديولوجيا السوق ومؤسسة الدولة في الغرب لم تصنع بعد الدولة في الصين، وليست قادرة حتى اليوم على تفكيك الإيديولوجيا الكونفوشيوسية كما تتمنّى أميركا والغرب عموما، وظهر أن فردانية رأسمالييها، ومنفعيتهم، كونفوشيوسية أصلا، وإن كانت استبدادية.
انتصر في الصين إرث نمط الإنتاج الآسيوي، حيث الدولة قوية جدا، ومواردها ضخمة، وقراراتها تنفذ بخلفية كونفوشيوسية تمجّد التضحية والانضباط والخضوع من أجل حياة الجماعة. وقد تصرفت الدولة كما لو أن جائحة كورونا البيولوجية فيضانية. أما في "الغرب"، فقد ارتبكت دولة السوق في العثور على قيمة البشر، ولم يساعدها التهرّم السكاني على التقاط أنفاسها، وبدأ سؤال الإنسان يعود لها .. من بدايات نهضتها.
هل نجاح الصينيين وارتباك دول أوروبا وربما أميركا من قبيل المصادفة؟ في خطابه الذي
في التحليل الماركسي، كما طوّره فيتفوغل، ليخرج به من حدود آسيا، وكما أثاره لاحقا بارنغتون مور وحتى بري أندرسون، أساسُ هذا النمط من الإنتاج هو إدارة الري الذي تقوم به دولة مركزية (إمبراطورية) قوية. تستخدم هذه الدولة جيشا ضخما من البيروقراطيين والتقنيين، وتلتحف بإيديولوجيا تمجّد التضحية والاستعداد للخدمة العامة. وتكمن قوة هذا التنظيم في أن حياة الفلاحين رهينة بقدرة الدولة على إدارة شؤون الري، سواء بتوفير الماء أو بحماية السكان من الفيضانات، بحيث تسقط الدولة – الامبراطورية أو تتجدّد وتستمر، بحسب درجة نجاحها في هذه المهمة، التي إما أن تجلب لها الموارد والقوة، أو تقود إلى إفلاسها وتداعيها. وكما أن الري حيوي للفلاحين، فإن مفتاح صيانته وتوفيره حكر على الدولة وجيش موظفيها الجرّار. في هذا النظام المُحكم، لا مكان لحرية فردية منفلتة، مفعمة بالرغبة الجامحة في تحقيق المصلحة الفردية، فمنظومة الري وقيامها وخرابها، وخصوصا رهاناتها السياسية والعلمية، أضخم بكثير من قوة الأفراد وحتى الجماعات، الذين لا يستطيعون تسخير الفلاحين للعمل في صيانة شبكات الري، كما تفعل ذلك الدولة المستبدّة، اعتمادا على القوة، وعلى إيديولوجيا الانضباط والتضحية التي تديرها، وعلى شبكة الموظفين والمهندسين المُكلفة.
لقد تطورت الصين منذ وصف علماء الغرب، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نمط إنتاجها وحياتها، وأصبح لها اليوم اقتصاد رأسمالي ضخم في طريقه إلى الهيمنة على العالم، لكن
انتصر في الصين إرث نمط الإنتاج الآسيوي، حيث الدولة قوية جدا، ومواردها ضخمة، وقراراتها تنفذ بخلفية كونفوشيوسية تمجّد التضحية والانضباط والخضوع من أجل حياة الجماعة. وقد تصرفت الدولة كما لو أن جائحة كورونا البيولوجية فيضانية. أما في "الغرب"، فقد ارتبكت دولة السوق في العثور على قيمة البشر، ولم يساعدها التهرّم السكاني على التقاط أنفاسها، وبدأ سؤال الإنسان يعود لها .. من بدايات نهضتها.