الأنثروبولوجيا الكولونيالية أداة في الحرب على غزّة
تحتلّ الأنثروبولوجيا الصدارة في النقاش الأكاديمي الدائر بشأن المعرفة الكولونيالية منذ عقود، وذلك لأن تشكّل مدونتها والاستنتاجات النظرية التي استُنبطت منها، وكذا البرامج العملية الاستعمارية التي صمّمت اعتمادا عليها، كانت تجري في سياق فرض سيادة شعوب على أخرى، بكل الكثافة الاعتبارية والتجريبية للمفهوم. ولأن الاستعمار الحضوري المباشر قد تراجع، فإن المدوّنة الأنثروبولوجية محلّ الجدل الأكاديمي اليوم تحوّلت إلى مدوّنة أرشيفية، وانزاح التنازع بشأنها من ساحة النضال السياسي الميداني، كما كان زمن حركات التحرّر، باتجاه قضايا أكاديمية نخبوية ذات صلة بشروط إنتاج المعرفة في بعديْها الكوني والمحلي. واليوم تعود الأنثروبولوجيا السياسية في عالمنا العربي إلى حلبة الصراع، بمنطلقاتها الكولونيالية نفسها، ولكن مسنودة هذه المرّة من الداخل بسياسات النظم المحلية، كما حدث في حرب أميركا على العراق، وكما يحدث اليوم في فلسطين خلال ذروة الحرب على غزّة.
وفي السياق الذهني لما يحدث اليوم في غزّة من محاولة شقٍّ لصفوف المقاومين بوسيلة إعادة اختراع "العشائر"، يمكن القول إن تاريخ الأنثروبولوجيا في العالم العربي مأساوي، من وجوه ثلاثة: الأول من مأساويته تمثل في وفود هذا العلم إلينا في صيغته الجديدة (أي بتعريفه الأكاديمي ومأسسته) في سياق كولونيالي، فكان الهاجس الأول للمحتل في هذا السياق السيطرة على المقدرات والإرادة والعقول. ولذلك، كل معلومة تشخيصية للآخر، وكل ظاهرة تتعلق بمفاهيمه وبطرق تنظيمه في أثناء مقاومته الحركية والسلبية للنشاط الاستعماري كانت تُقرأ بهدف تحييدها أو استخدامها في فرض هيمنته. وقد ترتبت على ذلك أمورٌ عديدة خطيرة، أبعدها غوْرا في التأثير إعادة بناء الوعي بالذات لدى المغلوب وفق الترميز "العلمي" والإداري التقني الجديد لواقعه من طرف الغالب. ومن ثم ظهرت عند النخب السياسية مقولة مقاومة المحتل بسلاحه، أي بمعارفه وسبل تسميته الأشياء ومناهجه في تمثلها والربط بينها، وهو ما كان يشترط استبطانها والقبول بصدقيتها وبشرعيتها. وفي أغلب المجتمعات العربية، ولكن بتفاوت، فازت في هذا السباق النخب الحداثية التي بنت الدول المستقلة. وفي هذا السياق، كان وجه الأنثروبولوجيا السياسية فظيعا، إذ إنها نفت عن المجتمعات المستعمرة تاريخيتها الخاصة، بكل كثافة معنى العبارة.
التقت الأنثروبولوجيا السياسية الكولونيالية بمدوّنة المعارف الانثروبولوجية المحلية، من أجل تحقيق أهداف سياسية في سياق هيمنة إمبراطورية أميركية
الوجه الثاني من هذه المأساة أن النخب الحداثية التي بنت الدولة الحديثة شرعت، منذ البداية، في محاربة الأنثروبولوجيا (بصفة عامة) بشكل مزدوج، ففي البلاد المغاربية تحوّلت الأنثروبولوجيا السياسية بعد الاستقلال إلى "علم تآمري" يبحث في كل ما يزعزع مشروع بناء الدولة المستقلة الحديثة، وبذلك مُنعت أو هُمّشت في كامل المنطقة، إلا في المغرب، حيث استخدمها المخزن (الدولة)، بالطريقة نفسها التي استعملها بها المستعمر، خلال سعيه إلى بناء شرعيته في الأرياف من خلال المزج بين آلية الانتخاب وآلية الموالاة الشخصية والجماعية. بيد أن النظم الاستبدادية الأخرى في المنطقة (ربما باستثناء تونس التي أصرّت نخبها السياسية على محاربة الهويات المحلية الضيقة، رغم أنها تستخدمها أحيانا بشكل تكتيكي سياقي) بدأت تستفيق على قوة إيديولوجية يطلب أصحابها الحكم، وتعتمد في نشاطها مرجعيات دينية مجمعة، من حيث المبدأ، للأفراد والمجموعات، فقدّرت أنها تمثل خطراً كبيراً عليها لأنها قادرة على اختراق جميع الفئات الاجتماعية، وهذا عكس الإيديولوجيات اليسارية. فكان من جملة ردود فعلها على هذا الخطر الداهم، كما تصوّرته، أن عادت إلى الاهتمام بالتفاصيل المحلية واستخدامها، وأفضل مثال على ذلك هو الجزائر التي عمّمت أقسام الأنثروبولوجيا في كل مكان، وأسّست مراكز البحث المختصة في المجال، بعدما همشت الأنثروبولوجيا عقوداً طويلة، بل أصبح أحد أهم وزرائها رئيسا لرابطة الزوايا الطرقية في البلاد!
وفي المقابل، كانت الأنثروبولوجيا السياسية، بمفهومها الأداتي الكولونيالي، إحدى أدوات بناء الدولة المستقلة في المشرق العربي، وآلية من آليات ممارسة السلطة والتفاوض على الشرعية، فكانت هنا في مأساة مزدوجة: من جهةٍ استخدمت النظم السياسية في المنطقة مدوّنتها الأنثروبولوجية العملية العريقة، وأبطالها النسابون، في نسج خيوط الشرعية والتوازنات السياسية وخرائط النصيب من الموارد. ومن جهة أخرى، سحبت هذه المعرفة العملية من حقل الأنثروبولوجيا السياسية لتبقى في مجال اللامفكّر فيه. وهكذا تمازجت في مدوّنة واحدة بالغة التعقيد مدونة الانثروبولوجيا السياسية الكولونيالية مع مدونة المعارف الانثروبولوجية العملية المحلية، ليتولد عن ذلك مشكل معرفي عويص، يتعلق بكيفية بناء السؤال النقدي للمعرفة الأنثروبولوجية السائدة في المنطقة.
في السياق الذهني لما يحدث في غزّة من محاولة شقٍّ لصفوف المقاومين بإعادة اختراع "العشائر"، يمكن القول إن تاريخ الأنثروبولوجيا في العالم العربي مأساوي
الوجه المأساوي الثالث للأنثروبولوجيا السياسية في العالم العربي ما نراه اليوم في غزّة، ورأيناه قبل 20 سنة في العراق وقبل عشر سنين في سورية، ومنذ سنوات في اليمن وليبيا والسودان، حيث التقت الأنثروبولوجيا السياسية الكولونيالية بمدوّنة المعارف الانثروبولوجية المحلية، من أجل تحقيق أهداف سياسية في سياق هيمنة إمبراطورية أميركية. والمثال النموذجي لهذه الظاهرة هو الحالة العراقية التي تجري محاولة تكرارها اليوم في غزّة. ففي الحرب على العراق تحالفت الأنثروبولوجيا السياسية الكولونيالية وعلم الأنساب والتاريخ المحلي للمجموعات القرابية الضيقة، من أجل إعداد ميدان المعركة العسكرية. وحينما حلّ (الحاكم الأميركي الإداري)، بول بريمر، بالعراق نصب خلية أنثروبولوجية سياسية قادها ديل أيكلمان "لفهم" المجتمع السياسي العراقي والتأثير فيه، وقد ندد الأنثروبولوجيون الأكاديميون الأميركيون بذلك في بيان شهير بزعامة أحد أهم رموز الأنثروبولوجيا السياسية في العالم مارشال سالنز.
واليوم في غزّة، عود على بدء. ذلك أن الحرب الشنيعة على حركة التحرير الفلسطينية في غزّة (كيفما كانت توجهاتها الإيديولوجية) لا تجري بسلاح القتل والتجويع والتشريد فحسب، بل كذلك بسلاح الأنثروبولوجيا السياسية الكولونيالية ومدوّنتها العملية العربية، الممنوعة على التفكير على الأقل محليا. وأداة هذه المعرفة تحويل تمركزات المال والمكانة الاجتماعية العائلية إلى كيانات سياسية، ومن ثمّة توسيع نطاق تأثيرها على محيطها عبر معارف النسابة ونشاط شبكات توزيع الأموال، ثم استخدامها بعد ذلك في ضرب وحدة المقاومة.
تعتقد دول كثيرة في المشرق العربي أن مدوّنة معارفها الأنثروبولوجية العملية صالحة لكل زمان ومكان، ولها هي بالذات. وهي ربما لا تدرك أن هذه المدوّنة تتآكل تحت تأثير التحولات الاجتماعية والتواصلية الفارقة في تاريخ المنطقة، وأن بناء المستقبل على أسس متينة يقتضي "الاحتفاء" السياسي والمعرفي بجديد هذه التحوّلات والبناء عليه. ذلك أن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" يستعمل ضدّها، هي تحديدا، مدوّنتها الأنثروبولوجية العملية لينسف ما بنته وفق هذه المدوّنة من شرعية وحدود وتنمية وأمن.