29 مارس 2024
في تعرية الدولة والجيش والشرطة
في النظرية السياسية التي بنيت عليها الديمقراطيات الليبرالية الحديثة، يشكل المواطنون عبر عقد اجتماعي (يعطيهم صفة المواطنة) الجيش والشرطة، ليُؤمنا لهم، كل حسب اختصاصه، حياتهم المدنية في مقابل تخلّيهم، كمواطنين، عن تأمين أنفسهم وأرزاقهم بسلاحهم الخاص. وهكذا، فإنه لا يتوقع من الجيش والشرطة أن يخونا العهد والأمانة، ويستغلا خلو يد المواطنين من السلاح لينقلبوا ضدهم ويقتلوهم. ويحصّن المواطنون أنفسهم من هذا الاحتمال بالسيطرة المدنية على قرار استعمال القوة عبر مؤسسات حكمٍ مدنية، تتوزع بينها القوة، فلا يحتكرها أي جانبٍ فيستخدمها لمصلحته الخاصة.
كشفت النظريات النقدية الماركسية وغيرها زيف هذه النظرية، على الرغم أنها ظلت الأكثر صمودا، وقد بينت أحداث كثيرة أن النظم الديمقراطية لا تستخدم الجيش والشرطة لتقتل المواطنين، طالما أن مصالحها العليا ليست مهدّدة بشكل قوي، أي فقط طالما أنها لم تستنفد ما في جعبة الديمقراطية من آلياتٍ تساعد على حل الصراع، وضمان المصالح سلميا. لقد تشكلت هذه المنظومة تاريخيا في سياقٍ طغت فيه مبادئ سيادة الدولة - الأمة الناشئة، بواسطة قانونها وجيشها وشرطتها، على مجالها الترابي، واستقلال القرار في ما يخص المصالح العليا. وهكذا، في النظم الديمقراطية، أصبحت القوات المسلحة، بأصنافها المختلفة، تدافع عن نموذج، عن مؤسسات (جمهورية أو ملكية)، عن آليات عملٍ مستقلة عن الأفراد. صحيحٌ أنها تضمن مصالح المهيمنين عليها، لكنها لا تخدم أشخاصا، أو مجموعاتٍ بعينها.
في سياق الربيع العربي، وإذا ما وضعنا جانبا الحالة التونسية (والحالة الجزائرية إلى الآن)، تدخلت الجيوش لقتل المواطنين العزّل وسحقهم، فخانت ميثاق العهد الذي تخلّى بموجبه
المواطنون المفترضون عن سلاحهم، وسلموها الأمانة لتسهر على حمايتهم. قامت بذلك، على الرغم من أن المواطنين المفترض حمايتهم سحبوا الشرعية، عبر التظاهر بالملايين، من ممثلي الدولة، أي ممن كانوا قد أعطوهم الشرعية، لكي يأمروا الجيش والشرطة، باستعمال سلاحهم، عندما يكون هناك خطر يتهدّد المواطنين.
في التجربة التي يعيشها السودان، وعاشها الشعبان، الليبي واليمني، ثم المصري، وعاشها الشعب السوري خلال الفترة الأولى من ثورته (تعقد الوضع فيما بعد بشكل غيّر مجرى الأحداث والغايات)، شاهد العالم بأسره الجيش والشرطة وهما يقتلان المواطنين، ويخلون ساحات الاعتصام بالنار والحديد، ويسنّون القوانين، وينكلون بكل معارض، بينما سحب الشعب ممن يفترض أنهم يوجهون الأمر للجيش والشرطة للقيام بهذا العمل أو ذاك.
إذا سحب المواطنون الشرعية ممن يعطي الأمر للجيش والشرطة، كي يستخدما القوة، ممن أخذت إذن هذه الجيوش الأمر بقتل المواطنين؟ تقول النظرية المتداولة في العالم العربي الآن إنها الدولة العميقة، وهذا المفهوم، كما قال الأكاديمي السوداني، عبد الوهاب الأفندي، هو الوحيد الذي أنتجه وصدّره الفكر السياسي العربي. ولكن ما معنى الدولة العميقة في المجتمعات العربية؟ الشيء الوحيد الذي يمكن إمساكه من هذا المفهوم أن هناك مراكز قرار لديها قوة إعطاء الأوامر، خارج القانون، لمؤسسات تعمل وفق نظام تراتبي، وبحسب قوانين معلومة. كيف يحدث هذا؟ هناك مقاربة من مستويين، تنتظر البحث والتعمق للإجابة على السؤال: الأول تاريخ تشكل الجيوش والشرطة العربية (صاحب الشرطة!) وعلاقتها بتاريخ تشكّل الدولة نفسها. الثاني التحولات العالمية التي يشهدها مبدأ سيادة الدولة على مجاليها، الترابي والمؤسّساتي.
ظهر، في المستوى الأول، أن النظام الذي كان يقوده معمر القذافي، وكنت قد شرحت جذوره
التاريخية في بحث مستقل (الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا)، وكذلك نظامي علي عبد الله صالح في اليمن وبشار الأسد في سورية، كان لها جيوش لا تقودها التراتبية والولاء للمؤسسة والمهمة الدستورية (على افتراض وجود دستور ومواطنة)، بقدر ما يقودها الولاء للأشخاص. وفي ليبيا واليمن، على الأقل، ظهر أن الجيش الواحد كان جيوشا متعدّدة، تعمل تحت إمرة أشخاص ومراكز قوى مختلفة. يبقى كيف يشكل هؤلاء الأشخاص والمجموعات قوة اعتبارية لها قوة إعطاء الأوامر، من دون أن تكون مؤسسة. ومن تمثل تحديدا؟ وما العلاقة بين من يعطي الأوامر والنسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد الذي لا تقوده حرية السوق كما تفترض ذلك النظرية السياسية الحديثة؟
ظهر، في المستوى الثاني، أن التبعية الإقليمية والعالمية المتبادلة للاقتصاديات والدول تكاد تُجهز نهائيا على فكرة السيادة، خصوصا في البلدان التي ليست لها الوحدة الأيديولوجية والوسائل الدفاعية المناسبة لحماية حرية القرار الداخلي (مثلا الحالة الإيرانية). ولنا المثال الصارخ في المجلس العسكري السوداني الذي خوّل لنفسه الخضوع للتأثير المباشر للقوى الخارجية الإقليمية والدولية، خارج كل القوانين، وبعدما سحب المواطنون ممن كان يعطيه الأوامر كل تفويضٍ في ذلك، من أجل أخذ القرار بقتل المواطنين! من أعطاهم الأوامر للقيام بذلك؟ أخيرا، نسجل في سياق هذا التحليل نموذج الجيش المصري الذي يتصرّف ليس جيشا تحت تصرف دولة المواطنين، بل جيشا له دولة... بالاشتراك مع الدولة العميقة.
كشفت النظريات النقدية الماركسية وغيرها زيف هذه النظرية، على الرغم أنها ظلت الأكثر صمودا، وقد بينت أحداث كثيرة أن النظم الديمقراطية لا تستخدم الجيش والشرطة لتقتل المواطنين، طالما أن مصالحها العليا ليست مهدّدة بشكل قوي، أي فقط طالما أنها لم تستنفد ما في جعبة الديمقراطية من آلياتٍ تساعد على حل الصراع، وضمان المصالح سلميا. لقد تشكلت هذه المنظومة تاريخيا في سياقٍ طغت فيه مبادئ سيادة الدولة - الأمة الناشئة، بواسطة قانونها وجيشها وشرطتها، على مجالها الترابي، واستقلال القرار في ما يخص المصالح العليا. وهكذا، في النظم الديمقراطية، أصبحت القوات المسلحة، بأصنافها المختلفة، تدافع عن نموذج، عن مؤسسات (جمهورية أو ملكية)، عن آليات عملٍ مستقلة عن الأفراد. صحيحٌ أنها تضمن مصالح المهيمنين عليها، لكنها لا تخدم أشخاصا، أو مجموعاتٍ بعينها.
في سياق الربيع العربي، وإذا ما وضعنا جانبا الحالة التونسية (والحالة الجزائرية إلى الآن)، تدخلت الجيوش لقتل المواطنين العزّل وسحقهم، فخانت ميثاق العهد الذي تخلّى بموجبه
في التجربة التي يعيشها السودان، وعاشها الشعبان، الليبي واليمني، ثم المصري، وعاشها الشعب السوري خلال الفترة الأولى من ثورته (تعقد الوضع فيما بعد بشكل غيّر مجرى الأحداث والغايات)، شاهد العالم بأسره الجيش والشرطة وهما يقتلان المواطنين، ويخلون ساحات الاعتصام بالنار والحديد، ويسنّون القوانين، وينكلون بكل معارض، بينما سحب الشعب ممن يفترض أنهم يوجهون الأمر للجيش والشرطة للقيام بهذا العمل أو ذاك.
إذا سحب المواطنون الشرعية ممن يعطي الأمر للجيش والشرطة، كي يستخدما القوة، ممن أخذت إذن هذه الجيوش الأمر بقتل المواطنين؟ تقول النظرية المتداولة في العالم العربي الآن إنها الدولة العميقة، وهذا المفهوم، كما قال الأكاديمي السوداني، عبد الوهاب الأفندي، هو الوحيد الذي أنتجه وصدّره الفكر السياسي العربي. ولكن ما معنى الدولة العميقة في المجتمعات العربية؟ الشيء الوحيد الذي يمكن إمساكه من هذا المفهوم أن هناك مراكز قرار لديها قوة إعطاء الأوامر، خارج القانون، لمؤسسات تعمل وفق نظام تراتبي، وبحسب قوانين معلومة. كيف يحدث هذا؟ هناك مقاربة من مستويين، تنتظر البحث والتعمق للإجابة على السؤال: الأول تاريخ تشكل الجيوش والشرطة العربية (صاحب الشرطة!) وعلاقتها بتاريخ تشكّل الدولة نفسها. الثاني التحولات العالمية التي يشهدها مبدأ سيادة الدولة على مجاليها، الترابي والمؤسّساتي.
ظهر، في المستوى الأول، أن النظام الذي كان يقوده معمر القذافي، وكنت قد شرحت جذوره
ظهر، في المستوى الثاني، أن التبعية الإقليمية والعالمية المتبادلة للاقتصاديات والدول تكاد تُجهز نهائيا على فكرة السيادة، خصوصا في البلدان التي ليست لها الوحدة الأيديولوجية والوسائل الدفاعية المناسبة لحماية حرية القرار الداخلي (مثلا الحالة الإيرانية). ولنا المثال الصارخ في المجلس العسكري السوداني الذي خوّل لنفسه الخضوع للتأثير المباشر للقوى الخارجية الإقليمية والدولية، خارج كل القوانين، وبعدما سحب المواطنون ممن كان يعطيه الأوامر كل تفويضٍ في ذلك، من أجل أخذ القرار بقتل المواطنين! من أعطاهم الأوامر للقيام بذلك؟ أخيرا، نسجل في سياق هذا التحليل نموذج الجيش المصري الذي يتصرّف ليس جيشا تحت تصرف دولة المواطنين، بل جيشا له دولة... بالاشتراك مع الدولة العميقة.