في تداعيات عودة طالبان

19 اغسطس 2021
+ الخط -

انسحاب الولايات المتحدة الأميركية وقوات التحالف الدولي من أفغانستان، بالصورة التي رآها العالم، وانهيار الحكومة الأفغانية بهذه الصورة وهذه السرعة أمام قوات حركة طالبان، دلالة على فشل مجتمع المخابرات الغربي والخبراء الغربيين في القدرة على تقديم تقدير موقف للوضع في أفغانستان، وهو ما جعل الأوروبيين يخرجون سريعاً، ويعلنون أن مهمتهم في أفغانستان قد فشلت. في الوقت نفسه، لهذا الانسحاب بعد آخر يتعلق بفشل الولايات المتحدة في قدرتها على بناء دولة مؤسسات، أو حتى تأسيس جيش أفغاني بالمعنى المؤسّساتي، وهو ما يثبت فشل بناء أي دولةٍ من طريق المحتل. ما حدث هو بمثابة زلزال سياسي ضرب العالم، وهو تأكيدٌ للتحوّل في موازين القوى في العالم، وتقلص مساحة الهيمنة الأميركية التي أصبحت أولويتها الآن مواجهة روسيا والصين. لكن ما حدث هو بداية الدخول في حقبة جديدة تتعدّد أقطابها. ويبدو أنّ الحرب الباردة التي انتهت من أفغانستان تعاود البدء مرة أخرى من الدولة نفسها، ولكن هذه المرّة حرب باردة متعدّدة الأقطاب، وليست قائمة على قطبين كما كانت. سيكون لعودة "طالبان" تداعياتها بالنسبة إلى كل دولة، وستتخذ كل دولة موقفاً يتسق مع مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي. بالنسبة إلى روسيا، هناك مخاوف تضاعف أكثر فأكثر نتيجة تخوفها من تحالف حركة طالبان مع الجماعات الإسلامية في الشيشان، لذلك تسير الاستراتيجية الروسية في اتجاهات متوازية، من خلال زيادة الجاهزية العسكرية الروسية في القاعدة 201 الروسية في طاجكستان (إحدى دول الاتحاد السوفييتي السابق). ويبدو أنّ تفاهمات حدثت مبكّراً بين روسيا و"طالبان"، فلم تغلق روسيا سفارتها أو تجلِ موظفيها، ما يعني أنّ هذا قد يكون مقدمةً لعملية الاعتراف بـ"طالبان" التي أصبحت واقعاً، طبقاً لتصريحات المسؤولين الأميركان والأوروبيين بأنه لا بد لنا من التحاور مع "طالبان".

الاستراتيجية التركية طويلة الأمد في إحياء "الطورانية الجديدة" تهدف إلى إيجاد حزام نفوذ في وسط آسيا، في الدول التي تتحدّث اللغة التركية بشكل رئيسي

لا تختلف المخاوف الصينية عن الروسية بشأن تمدّد حركة طالبان داخل أفغانستان، خصوصاً إذا انضمت الحركات الإسلامية من منطقة الإيغور ذاتية الحكم في إقليم شينغيانغ غربيّ الصين، التي تطالب منظماتٌ فيها بالانفصال عن الصين، رافعة شعارات دينية. كذلك يشكل "ممر واخان" على الحدود الأفغانية الصينية تهديداً حقيقياً، خصوصاً عقب اجتياح "طالبان" مقاطعة بدخشان الشمالية الشرقية، واقتربت من الحدود مع شينجيانغ الصينية. لذلك اتخذت الصين سياسة الاحتواء مع "طالبان"، فقد أبلغت وزارة الخارجية الصينية وفداً زائراً من الحركة أنها تتوقع أن تؤدّي الأخيرة دوراً مهماً في إنهاء الحرب في أفغانستان وإعادة بناء هذا البلد. وقال متحدث باسم "طالبان" إن تسعة ممثلين عن الحركة التقوا وزير الخارجية، وانغ يي، في مدينة تيانجين (شمال) في زيارة استمرت يومين، ناقش الوفد خلالها عملية السلام والقضايا الأمنية. وقال وانغ إن من المتوقع أن تؤدي حركة طالبان "دوراً مهماً في عملية المصالحة السلمية وإعادة الإعمار في أفغانستان"، وأعرب عن أمله في أن تقمع "طالبان" حركة تركستان الشرقية الإسلامية، لأنها تشكل "تهديداً مباشراً للأمن القومي للصين. لذا ما أتوقعه أن تقوم روسيا والصين بالتركيز على الاستقرار في أفغانستان وتدعيمه".

ومع أنّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان قد يؤدّي إلى مزيد من عدم الاستقرار والفراغ، فإن إيران، إحدى القوى الإقليمية الفاعلة في أفغانستان، تستعد لممارسة تأثيرٍ كبير هناك بعد الانسحاب الأميركي، ولا سيما في دعم جماعة الهزارة الشيعة في وسط أفغانستان. إضافة إلى ذلك، قد يوفّر الانسحاب لإيران فرصةً لتعزيز العلاقات مع القوى الأخرى المشاركة في أفغانستان، خصوصاً روسيا والصين. كذلك ستستثمر إيران في محاولة بناء نفوذها الناعم في أفغانستان، ولا سيما في مجالات التعليم والإعلام، إذ عملت على بناء مدارس ومساجد ومراكز إعلامية ودعمها. وستستثمر إيران ذلك في مفاوضاتها المتعلقة بالملف النووي الإيراني، وسيكون لديها أوراق عديدة على طاولة التفاوض، ما سيرفع أسهمها في أن تحصل على ما تريد.

ماذا لو أنفقت الولايات المتحدة تلك المليارات في بناء مؤسسات تعليمية وثقافية وصحية للشعب الأفغاني، هل كان ذلك سيسمح بعودة "طالبان"؟

سيمثل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان فرصة حقيقية لتركيا التي يحرص رئيسها أردوغان على أن تصبح بلاده أكثر استقلاليةً عن الغرب، حيث كانت دول آسيا الوسطى، وخصوصاً باكستان، خياراً مهماً كشريك يمكنه أن يحقّق لأنقرة تنويعاً في علاقاتها الدفاعية، وأضحت إسلام أباد الشريك الاستراتيجي الذي يساعد تركيا في الحفاظ على التوازن بين الشرق والغرب، ويزيد نفوذها في آسيا. عمدت أنقرة إلى ترتيب الأوضاع مع باكستان قبل حدوث الانسحاب، وخصوصاً أن إسلام أباد تعتبر نفسها لاعباً رئيسياً في كابول، من خلال دعمها "طالبان" وكونها وسيطاً مع إيران، فضلاً عن أنها شريك استراتيجي، ما يعنى أنها ستساعد تركيا على الحفاظ على التوازن بين الشرق والغرب. ومعروف أن الاستراتيجية التركية طويلة الأمد في إحياء "الطورانية الجديدة" تهدف إلى إيجاد حزام نفوذ في وسط آسيا، في الدول التي تتحدّث اللغة التركية بشكل رئيسي، وخصوصاً أن هذه المنطقة تعتبر حيويةً لما تحتوي عليه من موارد طبيعية، إذ يمكن القول إنها "استثنائية"، فضلاً عن طرق المواصلات الموجودة فيها. من هنا، تطمح أنقرة إلى أكثر من تأمين موطئ قدم في تلك المنطقة الاستراتيجية.

ومن ناحية ثانية، سيعبر طريق الحرير الجديد الذي يبدأ من العملاق الصيني إلى أوروبا من الباب التركي، نظراً إلى الموقع الاستراتيجي لتركيا، وسيحقق منافع لا حصر لها من مشروعاتٍ تتخذ في دول العبور كمحطات توقف. ويشكل نفق مرمرة جسراً أوراسياً لطريق الحرير، وتعتبر باكستان ممرّاً حيوياً لهذا الطريق، عبر ممرّ غوادار على المحيط الهندي. بالتالي، من المهم لتركيا تنسيق العلاقات مع إسلام أباد في استراتيجية موحّدة مع الجمهورية الإسلامية في إيران، فالدول الثلاث وثقت روابطها مع الصين، فيما يبدو أنّ واشنطن تغادر المنطقة والصين تدخلها.

لكنّ هذا الانسحاب يطرح سؤالاً عن استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة في مواجهة روسيا والصين. فكيف للولايات المتحدة أن تواجههما، وفي الوقت نفسه، تنسحب من أفغانستان، فالمواجهة تقتضي البقاء في أفغانستان، وتحويلها إلى قاعدة أمامية في مواجهة الصين أولاً وروسيا ثانياً. وثمة سؤال آخر: ماذا لو أنفقت الولايات المتحدة كل تلك المليارات في بناء مؤسسات تعليمية وثقافية وصحية للشعب الأفغاني، هل كان ذلك سيسمح بعودة "طالبان"؟ أم أنّ الولايات المتحدة، كما قال بايدن، لم تأتِ إلى أفغانستان للإعمار، بل لمنع أي هجوم عليها كما حدث في "11 سبتمبر" عام 2001.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.