عندما لم تتهيأ مصر للصراع في السودان
انطلقت قبل أيام المواجهة المسلحة بين الجيش النظامي السوداني، تحت قيادة رئيس مجلس السيادة (الانتقالي) الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة نائب رئيس المجلس الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي). وخطورة هذا الصراع أن له تداعياته السياسية والأمنية على المستويين الإقليمي والدولي، كما أنه يعيد أسئلة عديدة بشأن موقع السودان الجغرافي والسياسي، فأطماع دول كبرى وإقليمية في بلد غني مثل السودان جعلته مركز صراع بين هذه القوى المختلفة. ومن هنا، يتداخل البعدان الدولي والإقليمي مع البعد المحلي في الصراع الدائر. يتحدّث الجميع عن تاريخ قوات الدعم السريع وعن الصراع بين حميدتي والبرهان، بينما يتم إغفال الجانب القبلي الحاضر بقوة في هذا الصراع، والذي قد يقود إلى حربٍ أهلية، ويؤدّي إلى تفكّك السودان، وهو ما ستكون له تداعياته الكبرى على المنطقة، وخصوصا على دول الجوار، ولا سيما مصر. لأول مرة، تشهد السودان مثل هذا الصراع، الذي شمل جميع ولايات البلاد الـ18، ومع استمراره سوف يتعقّد المشهد أكثر فأكثر، وتصبح له امتدادات إقليمية ودولية.
لقد أصبحت مصر رجل المنطقة المريض الذي فقد قدرته على التأثير في عمقه الاستراتيجي، ولم يعد له دور يُذكر، وأصبح منهمكا في مشكلاته الداخلية، وأزماته الاقتصادية، وتراجعت أهميته، وليس أدلّ على هذا من اتصال وزير الخارجية الأميركي بوزيري خارجيتي السعودية والإمارات لإيجاد حلّ للصراع المتفجّر في السودان. كان هذا دلالة واضحة على أن مصر لم تعد حاضرة في المشهد، ولم تعد اللاعب الأساسي في المنطقة. لقد غابت عن عمقها الأفريقي فتركت فراغا كبيرا قامت الدول الخليجية بملئه، وأصبحت المنافسة السعودية والإماراتية واضحة وقوية على ثروات السودان وسواحله. كما أن محاولات عزلها بدت واضحة من خلال استبعادها من اتصالات الوزير الأميركي لإيجاد حل للاقتتال الدائر، وهو ما يوضح إلى أي مدىً أصبح العمق الاستراتيجي والمصالح المصرية مهدّدة بصورة مباشرة. ولعل أهم الأسباب في ذلك هو النهج السياسي الذي انتهجه نظام عبد الفتاح السيسي في السودان، فهو نفسه الذي قام به في ليبيا، ما أدّى إلى أن تكون مصر طرفا في الصراع، وليس وسيطا، قد يلعب دورا يؤدّي إلى التوصل إلى اتفاق ينهي الصراع ويعيد لمصر دورها الإقليمي.
الهدف القائم من عدم الإفراج عن رهائن الجيش المصري استفزاز مصر لتكون طرفا في الحرب
لقد ترك الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه ليكون أداة في يد بعض الدول الإقليمية، مقابل الحصول على دعم مادّي، أو تطبيق أجندة إقليمية على حساب الأمن القومي المصري. فقد جعل لنفسه مهمّة أساسية، تصدير نموذج الانقلاب العسكري إلي دول الجوار، ومحاربة أي تجربة تحوّل ديمقراطي قد تحدُث، لأنه يرى في ذلك تهديدا مباشرا على شكل السلطة التي أسّسها. والنتيجة المشهد الذي نراه في السودان ومن قبله في ليبيا، والذي ستكون له تداعياته المباشرة على أمن مصر القومي.
يبدو المكون القبلي حاضرا وبقوة في الصراع الدائر في السودان، فهو أساسيٌّ في بنية قوات التدخل السريع، التي توجد بها قبائل عربية لها مواقف معادية لقبائل أفريقية، كما أن الجيش السوداني النظامي نفسه يستند، في تركيبته، إلى المكوّن القبلي، حيث هناك وجود للقبائل العربية وقبائل أخرى داخل تركيبته. تفجّر الصراع واحتدامه وانتشار رقعته يعني الدخول في حرب أهلية على غرار الحرب السورية، ما قد يؤدّي إلى تفكّك السودان وانتشار المليشيات على نطاق أوسع، وهو ما ينذر بكارثةٍ إنسانيةٍ في بلد يعاني من مجاعاتٍ ونقص في المواد الغذائية، ما سيؤدّي إلى موجات نزوح كبيرة إلى الدول المجاورة ومنها مصر. والظروف الاقتصادية التي ترزخ تحتها مصر حاليا تجعلها غير قادرة على تحمّل موجات لجوء مثل تلك، إلى جانب العبء الأمني لمواجهة عمليات تهريب الأسلحة والبشر على الحدود المصرية السودانية.
من أكثر الأمور التي تهدّد مصر وتهدّد السودان والمنطقة أن يتحوّل السودان إلى صومال جديد، وتكون هناك أجيال من المتقاتلين المسلحين
وستكون لتفكّك السودان أيضا تداعياته على القضايا المهمة لمصر، وخصوصا قضية سد النهضة، فقد كانت مصر تنسّق بصورة دائمة مع السودان، من أجل أن تقف في وجه الغطرسة الإثيوبية، من أجل توحيد الجهود في هذا الإطار، إلا أن السودان لو تفكّك فهذا يعني أن مصر فقدت حليفا مهما، كما أنها ستكون مضطرّة إلى التعامل مع دويلاتٍ ما يفرّقها أكثر مما يجمعها، وهو ما سيكون له أثره في ملفّ مهم، مثل ملف نهر النيل.
وفي الوقت نفسه، تواجه مصر الآن خطر التورّط في الحرب الدائرة في السودان، حيث هناك رهائن من الجيش المصري في قبضة مليشيات حميدتي، ولو حدث هذا التورّط فهذا يعني توسّع الصراع وتحوله من صراع محلي سوداني إلى أن يصبح صراعا إقليميا، وهو ما ستكون له تداعياته على الإقليم ككل، فالهدف القائم من عدم الإفراج عن رهائن الجيش المصري استفزاز مصر لتكون طرفا في الحرب. على أن رفضنا هنا الانخراط في الصراع السوداني لا يعني غضّ الطرف عن الفشل الأمني والاستخباراتي لأجهزة الرئيس السيسي، ففي وقتٍ تنشغل فيه أجهزة المخابرات المصرية بملاحقة المعارضين داخليا وخارجيا، وإلقاء القبض عليهم، لم تؤدّ مهمتها وتركت الجنود في القاعدة الجوية، خصوصا بعد رصد تحرّكات لمليشيات التدخّل السريع، وتوتّر الأجواء واحتمال الاشتباك، ولم تقم بإجلائهم لتجنيبهم هذا الموقف المحرج لمصر وللمؤسّسة العسكرية.
من أكثر الأمور التي تهدّد مصر وتهدّد السودان والمنطقة أن يتحوّل السودان إلى صومال جديد، وتكون هناك أجيال من المتقاتلين المسلحين. وفي ظل ضعف الولايات المتحدة وتراجع نفوذها في المنطقة، يصبح الأمر خارجا عن السيطرة ويتحوّل السودان إلى منطلق ومركز للجماعات الإرهابية، ما يهدّد بصورة مباشرة الحالة السياسية والأمنية على الصعيدين الدولي والإقليمي.