طرابلس الهائمة بالسينما
تتحوّل النون لاماً، فيلفظها أهل طرابلس "سِيلَما"، وهكذا يفعل المخرج اللبناني، هادي زكّاك، في فيلمه التسجيلي الذي يحمل العنوان نفسه (من إنتاجه وتصويره وتأليفه)، وفيه يسأل أبناء المدينة وقاطنيها عن علاقاتهم بالفن السابع، وما ارتادوها من صالات عرض تتوالى أسماؤها فتصيب، لتكاثرها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، السامعَ بدُوار: أمبير، دنيا، الحمرا، أوبرا، روكسي، الريفولي، بالاس، المتروبول، كولورادو، بيكاديللي، ستاركو، هوليوود، كليوباترا، راديو، رابحة، سلوى، فيكتوريا، إلخ. ناهيك عن السينمات الشعبية التي كانت تفرّخ بين العمارات والبيوت، أو النوادي السينمائية التي ينشّطها أفراد من عشّاق هذا الفن وعارفيه، وحيث يلي العرض نقاش هدفه التثقيف وتوسيع الاطلاع، وهو ما درج عليه أهل اليسار عامة في السبعينيات.
فترة ذهبية كانت السينما خلالها مقصداً للتسلية والترويح عن الذات، بل إن الذهاب إليها في نهاية كل أسبوع هو بمثابة طقس ديني، ترتدي فيه النساء أجمل ما عندها، وكذا الرجال. موعد للتشاوف، لإبراز المكانة الاجتماعية بقطع البطاقات التي تسمح لك الجلوس في "البلكون"، فيما يجلس الأقل مرتبة، تحت في الصالة. وما تعرضه الصالاتُ يجلب العالم كلّه إليك، فمنها المخصّص لأفلام الكاوبوي، أو أفلام الأكشن، ومنها المعروف بعرض الأفلام العربية، والمقصود بها المصرية طبعاً.
كثر ممّن نسمع أصواتهم ولا نرى صورهم على الشاشة (للأسف)، إلا في جنريك نهاية الفيلم، يروون مغامراتهم صغاراً وكباراً، وكأنّ ارتياد الصالة يختصر الطفولة والمراهقة وحتى الشباب، وكأّن الحياة كلّها كانت تجري لتأخذهم إلى هناك، صوب المكان الممنوع عليهم، ثم إلى النافذة التي يتلصّصون منها على ما يدور خلف الحدود، ثم إلى عتمة الصالة، حيث الحلم والإفلات من سلطة الأهل والمدرسة والمجتمع، وتدخين السجائر المسروقة والمشتراة، وملامسة اليد الناعمة، أو تحيّن مشاهدة "القطشات" الحسّية الممنوعة التي كان يُدخلها عارضُ الفيلم، داخل الفيلم، فتصير الصالة مكاناً لاكتشاف أولى اللذّات.
وأما في المينا، المنطقة الأكثر شعبية، حيث المقاعد أرخص، وإن كانت الأفلام هي نفسها، وقد عُرضت قبل أسابيع في طرابلس، فأصحاب الصالات يرسلون صبيين يحملان ملصق الفيلم ويدوران به على الأحياء، مع قارع جرسٍ ينادي بصوته معلناً عنوان العرض القادم. وفي الأمكنة التي تُخترع السينما فيها قسراً، في الأحياء الفقيرة وبين البيوت، فالأفلام عربية وهندية ورعاة بقر وأكشن، ومن يجرؤ على القبض على البطل أو على ضربه، فقصاصُه ضرب رصاص يمزّق الشاشة ويعطّل العرض.
من دون أن يدروا، ثقّفت السينما السكّان، وسّعت آفاقهم، كشفت لهم عن ثقافاتٍ أخرى، روت لهم التاريخ، وأهدتهم الحلم والفرح وبهجة الخروج إلى أعياد جارية طوال النهار. لكنّ السياسة احتدمت، فحوّلت الصالات إلى مكانٍ لإلقاء الخطب الحماسية، ومناصرة فلسطين، والتغنّي بمزايا البطل الأوحد، إذ لطالما كان هوى المدينة ناصريّاً بامتياز. ثم اشتعلت حرب عام 1975، وسلبت الناس حرية التنقل والشعور بالأمان. أُقفلت صالات كثيرة بعد أن هجرها المشاهدون خوفاً على حياتهم، وخوفاً من المليشيات والجنود والسلاح الذي صار يجلس إلى جانبهم خلال العرض، وقد يُستخدم ويلعلع الرصاص بين الحضور، لو اتضّح أنهم من الأعداء، وأن معركةً قد ابتدأت في الخارج بين المتخاصمين.
حتى عندما وضعت الحرب أوزارها، لم تسلم السينما من الضرر، إذ كان عصر الفيديو قد حلّ. هكذا يرينا زكّاك احتضار الصالات المهدّمة الخربة والمقاعد الفارغة والشاشات المبقورة وأسماء الصالات الممحوّة أو منقوصة الحروف، شاهدةً على زمنٍ لم يعُد، حتى بعد سكوت القذائف والرصاص. ثمّة عصر جديد قد أقبل، هو عصر إنترنت وعصر المنصّات والأفلام التي تشاهَد في المنازل على شاشات صغيرة ما انفكّت تتسّع وتكبر وتتسطّح، حتى ابتلعت بشكل نهائي تقريباً، تلك التي كانت باتساع أشرعة سفن تعبر البحار وتحملنا إلى البعيد...