سورية واليسار ورسالة مسح بعض العار

31 مارس 2021
+ الخط -

قرأ المهتمون قبل أيام رسالة مفتوحة وقّعها عشرات الناشطين والمثقفين من سورية و32 بلداً آخر، وتتبرأ من يساريين عرب وأجانب متفرغين للدفاع عن سلطات القتل والتعذيب الخاصة ببشار الأسد. الرسالة تذكّرنا بحقائق عديدة، ربما يكون أكثرها إلحاحاً انعدام الحساسية اليسارية حيال قضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان الفرد حين يتم وضع كل هؤلاء في مواجهة صيغة الجمع، أي القضايا والشعارات والأيديولوجيات. صحيح أن الرسالة محصورة بسورية، لكن يسهل إسقاط مضامينها على لائحة طويلة من البلدان والشعوب التي اضطهدت ودُمرت وقُمعت واحتُلت باسم محاربة الإمبريالية وفي سبيل ردع الغرب عن استباحة هوايتنا في الصمود والمواجهة. أدبيات ماركسية تأسيسية، إن قُرئت بدماغ مفتوح، تُظهر أن المصيبة لا تقتصر على جرائم السوفييت وأتباعهم مثلما درج كثيرون على تسويقه. يصعب حصر الأمثلة عما تعرضت له شعوب بأكملها من قبل أنظمتها الوطنية قبل الحرب الباردة وخلالها وبعدها، تحت راية محاربة أعداء الداخل من جماعة الكومبرادور والبرجوازية الصغيرة العميلة لقوى الغرب الرجعي الرأسمالي الإمبريالي... والأميركي طبعاً. إذاً وضاعة أخلاق جماعة "اليسار الخاص بعديمي المبادئ، والكسالى، والحمقى"، بحسب تعابير الرسالة المفتوحة موضوع المقال، ليست غريبة على سلوك اليسار "الماينستريم" تاريخياً، لكن فارقاً جوهرياً يجعل ما نسمعه ونقرأه لهؤلاء عن سورية وثورتها غير مسبوق في انحطاطه، بما يتسبب باليأس من إمكانية تأسيس يسار جديد فعلاً. يجدر تذكر كيف أن أحزاباً شيوعية أوروبية عريقة انفرط عقدها على خلفية اجتياح الدبابات السوفييتية براغ وبودابست. حركات ثقافية بالجملة نشأت على يد التقدميين المنشقين هؤلاء نتيجة تركهم أحزابهم المدانة لتأييدها حكم الغولاغ. أما اليوم، فيكون حدثاً مفاجئاً حين يغادر يساري تنظيمه لأسباب مبدئية أخلاقية من نوع إدانة الانحياز لآلة القتل البعثية. ووفق المنطق نفسه، صار كثيرون يُفاجأون حين يضع نعوم تشومسكي توقيعه على الرسالة المفتوحة التي لاحظت كيف يتفق يساريونا المذكورون مع اليمين المتطرف في الغرب، لناحية تأييد سلطات عبودية وإبادة كحكم الأسد.

نظرة الغالبية من اليسار الغربي، الأوروبي والأميركي تحديداً، ممن نعرفهم كأكاديميين مشهورين وإعلاميين وكتاباً مؤثرين، حيال شعوب "العالم الثالث" تحديداً، تحتاج إلى بحث مستقل. نحن عند طيف واسع من اليسار الغربي، جنود عبيد في حروبهم. نحن حطب لإبقاء شعلة "محاربة الإمبريالية" متقدة، وأكياس بطاطا لإشباع جوعهم المزمن للانتصار بالكلمات البليدة على الغرب المرذول. أحزاب شيوعية تقيم القيامة في أوروبا إن مُسّ مواطن بكلمة غير لائقة من شرطي في الشارع، بينما يتجند منظروها لتبرير إبادة ملايين في "العالم الثالث" لأنه لا بد أن يسيل دم غزير في ملحمة محاربة الغرب وتدخلاته. في هذه الحالة التي تشكل سورية والموقف اليساري الغربي من ثورتها نموذجاً لها، قد تكون عنصرية اليسار أشد تطرفاً من عنصرية اليمين. لدى كثيرين من اليساريين في الغرب عجرفة إقناع أنفسهم بأننا ارتضينا بأن نفتديهم بحرياتنا وبحقوقنا وبطموحنا إلى الديمقراطية وبرفاه العيش وباحترامنا وبكراماتنا، وقَبِلنا بأن يدهسنا أصدقاؤهم من حكّامنا، فقط لكي يبقوا هم متفرغين لمحاربة إمبريالية بلدانهم التي تسمح لهم بحيّز واسع من الديمقراطية ومن العمل في الشأن العام.

اليساريون المدافعون من حول العالم عن سلطات الإبادة والعبودية، وفي القلب منها نظام الأسد، حوّلوا كلمة يسار إلى مصدر للشعور بالعار والخجل. الرسالة المفتوحة تذكّر بوجود يساريين من طينة أخرى، يظلون الاستثناء بينما الراقصون على أنغام البراميل السورية المتفجرة والعويل الخارج من المعتقلات، هم القاعدة، قاعدة اضطهاد البشر لكي تحيا القضايا. لهؤلاء يقول كتبة الرسالة المفتوحة إنه "لا يمكن أن ينتمي لليسار من ينحاز، صراحةً أو ضمناً، لنظام الأسد القاتل، ولا من يوجّه اتهامات انتقائية وانتهازية بالـ"إمبريالية" بحجج مستمدة من تصوره الخاص لليسار...".