دفاعاً عن عيوب الديمقراطية

10 يوليو 2024

فرنسيون يحتفلون بفوز اليسار في ساحة الجمهورية في باريس (7/7/2024 فرانس برس)

+ الخط -

متابعة انتخابات فرنسا وبريطانيا كانت ضرورية لإضافة أدلّة على عظمة اختراع الديمقراطية بكل ما يشوبها من نواقص، وعلى بشاعة الاستبداد والتسلط. قدّم البلدان في غضون أسبوعين نسقين مختلفين في السياق الذي جرت فيه انتخابات برلمانية مبكّرة، وفي النظام السياسي والقانون الانتخابي، ومتشابهين في رسوخ الثقافة الديمقراطية، وإن كانت سلاستها في بريطانيا تُقابل حدّةً تدنو من العداء والعنف اللفظي والجسدي في فرنسا، خصوصاً في السنوات الأخيرة، مع انحدار مستوى السياسيين، وهي ظاهرة عالمية تساهم في تسمين أزمة الديمقراطية.

عرفت بريطانيا الخميس الماضي واحدةً من أسلس المرّات التي يذهب فيها الناخبون إلى صناديق الاقتراع وأكثرها مللاً، إن كان معيار الملل هدوء أجواء التصويت وسلميّته وتبادل الابتسامات بين المرشحين والتهاني بين الخاسرين والفائزين وانسيابية التسلم والتسليم بين حكومتين ورئيسيهما. عقاب قياسي وُجّه لـ14 عاماً من حكم المحافظين ولمهازل سنواتهم الأخيرة مع بوريس جونسون وليز تراس وريشي سوناك. ثاني أكبر فوز لحزب العمّال في قرن (412 نائباً من 650) بعد ما حققه توني بلير عام 1997 (418). في المقابل، صعود هائل لحصّة بريطانيا من التخلف والرداءة والتطرّف والشعبوية والكراهية وحبّ فلاديمير بوتين، ممثلة في حزب "إصلاح بريطانيا" لصاحبه نايجل فراج اليميني المتطرّف، أبي "بريكست" وأبي مجموعة كبيرة من أوبئة عقلية أصابت المملكة في السنوات العشر الماضية، وكان بريكست رمزاً لها. حزب إصلاح بريطانيا، أو الفرع المحلي لحزب الشعبوية العالمية، نال 14% من الأصوات، ولحسن الحظ، فإن النظام الانتخابي الأكثري في بريطانيا، القائم على الدائرة الفردية وعلى الجولة الواحدة، لم يترجم هذه النسبة المئوية الهائلة إلا فوزاً لخمسة نواب لحزب الرداءة. ليست الديمقراطية مَن أظهر وزن شعبويي بريطانيا، بل لولا الديمقراطية، لكانوا برزوا في حرب أهلية بدل الصندوق. فرنسا المجاورة مختبر لذلك الصعود اليميني المتطرّف، فقد حلّ حزب الفاشية الفرنسية تاريخياً، التجمع الوطني اليوم والجبهة الوطنية في الأمس، أوّلَ من حيث عدد الأصوات (أكثر من 10 ملايين صوت في مقابل 7.7 ملايين لمرشّحي التحالف اليساري الذي حلّ أوّلَ في عدد نوابه الـ182 مقابل 143 لليمين المتطرف). لا مؤامرة ديمقراطية في ذلك، فالنظام الانتخابي الأكثري الذي يعتمد على الدائرة الفردية لكن على جولتي تصويت، بهدف تشجيع التحالفات ما بين الأحزاب والمرشحين، يسري على الجميع ولا يميز أحداً على أحد، وهذه ميزة ديمقراطية إضافية: المساواة أمام القانون. الديمقراطية التي سمحت لليمين المتطرف بالحلول أوّلَ في الجولة الأولى الأحد قبل الماضي، هي نفسها أعادته إلى الخلف في المرتبة الثالثة وكافأت نقيضه في الدورة الثانية، تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري. لخاسرٍ صاحب ثقافة ديمقراطية ضعيفة أن يعتبر هذا التحول في التصويت نتيجةً لألاعيب مرذولة تحت الطاولة وفي الظلام، ولمؤمن بقيمة السياسة وأفضال الديمقراطية أن يفهم أهمية التحالفات في السياسة والانسحابات المتبادلة ما بين المرشّحين والتنازلات أحياناً، والتمسك بالبرامج أحياناً أخرى، وأن يستوعب دروس عقاب شعبي دفن سياسياً كإيمانويل ماكرون وصل إلى السلطة عام 2017 كـ"طفل معجزة" سيعيد تعريف السياسة بعيداً عن ثنائية اليسار واليمين، فإذا به لا يعرف كيف يكمل ولايته الثانية واحداً من أقلّ رؤساء فرنسا شعبيةً في تاريخ الجمهورية الخامسة.

الديمقراطية تشبه البشر والحياة الطبيعية. فيها عيوب ونتوءات وأعطاب، فيها صعود وهبوط. فيها خروجٌ عن النص، أي حرية، لا صفوف مرصوصة كورية شمالية. لرأس المال تأثير كبير على الديمقراطية واشتغالها وعلى الإعلام والأحزاب في تلك البلدان، وهذه أزمة حقيقية، لكن جدير تذكّر أنه في المقابل، في أنظمة الاستبداد، يكون البلد بكل رساميله وثرواته ملكاً للحاكم الفرد المعصوم. حتى عندما تؤدّي الديمقراطية إلى فوضى، تكون فوضاها حميدة يمكن للمؤسّسات ضبط حدّتها سلمياً في انتخابات مبكّرة أو استفتاء شعبي وعبر الإعلام والقضاء وكافة أشكال التعبير وحرياته. أما في بلدان الاستبداد، فهناك ما هو عكس الفوضى. لم يسبق أن سمعنا لا عن فوضى ولا عن حياة داخل القبور.