أكذوبة فرنسية يستحيل بلعُها

03 يوليو 2024

تجمّع داعم لحزب فرنسا الأبيّة وضدّ اليمين المتطرّف في باريس (30/6/2024 فرانس برس)

+ الخط -

الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية كانت تاريخية. والحدث التاريخي ليس حكماً قيمياً إيجابياً بالضرورة، فهو قد يعيد إحياء ماضٍ مظلم مثلما قد يكون مبشّراً بغد مضيء. بهذا المعنى، فإن انتخابات ألمانيا 1936 التي أتت بهتلر والنازيين إلى الحكم كانت حدثاً تاريخياً، مثلما كانت تاريخية أيضاً انتخابات فرنسا في العام نفسه، والتي منع فيها الشيوعيون والاشتراكيون فاشيي مارسيل بوكار من حكم الجمهورية الثالثة، وأتوا بأول يهودي هو ليونيل بلوم، زعيم الحزب الاشتراكي و"الجبهة الشعبية"، رئيساً للحكومة، رمزاً بيهوديته (على الورق) لهزيمة الفاشيين المعادين للسامية. أغلب الظن ألا يتكرّر إنجاز 1936 الأحد المقبل، وأن يؤلف اليمين المتطرف أولى حكوماته منذ فيشي. وبعد 88 عاماً من انتخابات 1936 التي كانت معاداة السامية حجر أساس فيها، سعياً إلى اعتمادها سياسة رسمية أو نضالاً لحظرها، يتمكّن طيفٌ سياسيٌّ واسعٌ جداً في فرنسا، من اليمين خصوصاً ولكن ليس حصراً، من اختراع أكذوبة فظيعة تمرّ بسلاسة بينما كانت تحتاج في زمن مضى إلى خيال خصب لترويجها: الحزب اليساري "فرنسا الأبية" معادٍ للسامية، لا "التجمّع الوطني" اليميني المتطرّف، المعجون بالعنصرية والتفوق العرقي وكراهية اليهود (والمسلمين اليوم) كرموز للآخر الغريب والأدنى. لماذا؟ لأن الحزب اليساري اتخذ موقفاً جذرياً في رفض حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وجعل من هذا الموضوع شعاراً رئيسياً لحملته في انتخابات البرلمان الأوروبي (9 يونيو/ حزيران الماضي). لكن القصة تعود إلى إقرار البرلمان الفرنسي في ديسمبر/ كانون الأول 2019، بناءً على اقتراح من حزب إيمانويل ماكرون، مشروع قانون يساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية بناءً على تفاهة تفوّه بها الرئيس الفرنسي، مفادها بأن "معاداة الصهيونية أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية"، وكأنه لا يعرف حقاً أن "أهم من أنتجوا فكرًا مُعاديًا للصهيونية، واتخذوا مواقف مناهضة لها هم من المثقفين والمفكرين اليهود"، مثلما يكتب عزمي بشارة في دراسة نشرها في 28 فبراير/ شباط 2019 بعنوان "أصحيح أن معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية؟".

المساواة بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية بوصفها الأكذوبة الأم ولّدت أكاذيب فرعية، من نوع أن حزب فرنسا الأبية معادٍ للسامية، وأدلّة القائلين: النائبة عن الحزب في البرلمان الأوروبي ريما حسن فلسطينية ــ سورية ترتدي دوماً الكوفية الفلسطينية وترفض الإجابة عن السؤال الذي يلاحقها عن إدانتها هجوم "حماس" في 7 أكتوبر من عدمها. نائب من الحزب الفرنسي اليساري الراديكالي اسمه سيباستيان ديلوغو رفع العلم الفلسطيني داخل البرلمان الفرنسي. رايات فلسطين لا تغيب عن تظاهرات "فرنسا الأبية" وتجمّعاته. نائبة من الحزب وصفت حركة حماس بأنها حركة تحرّر وطني. الحزب يريد الاعتراف بدولة فلسطين فوراً ومعاقبة إسرائيل. باختصار، محاربة "فرنسا الأبية" وشيطنته وترذيله أوسع ترجمة لقانون مساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية داخل الحياة السياسية الفرنسية.

اتهام اليسار بمعاداة السامية وتبرئة "التجمّع الوطني"، سليل أقذر الفاشيين الفرنسيين من هذه التهمة، تطلّب من كُثر خروجاً عن صمتهم، لأن الأكذوبة فعلاً يستحيل بلعُها. كان على صحيفتي لوموند وليبراسيون التشهير بأسماء 45 نائباً أو مرشّحاً للنيابة عن حزب اليمين المتطرّف، "التجمّع الوطني"، يُحاكمون حالياً أو جرت مقاضاتهم أو هم متّهمون بمعاداة السامية أو بإنكار المحرقة أو بالعنصرية. في المقابل، ليس هناك أيّ نائبٍ من حزب فرنسا الأبية حُكم عليه بتهمة معاداة السامية. ما هو موثّق أن الحزب اليساري سحب يوم الجمعة الماضي ترشيح أحد أعضائه، ويُدعى رضا بلقاضي، لأنه اكتشف أن الأخير كتب على "تويتر" عامي 2018 و2019 تدويناتٍ لا سامية.

فداحة أكذوبة "لا سامية اليسار المتطرّف" من اليمين المتطرّف واليمينَين، الماكروني والجمهوري، دفعت المؤرّخ الفرنسي الشهير والمتخصّص في مواضيع العداء للسامية وإسرائيل والعنصرية، دومينيك فيدال، إلى الكتابة في موقع أوريان 21 في 28 يونيو/ حزيران الماضي عن نقاطٍ لا يجدر نسيانها لحظة: يفيد تقرير اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان في فرنسا عام 2022 بأن ناخبي "التجمّع الوطني" عنصريون حسب الإثنية بنسبة 89%، وإسلاموفوبيون بنسبة 77%، ومعادون للسامية بنسبة 51%.

تتوفر أسبابٌ لمعارضة جان لوك ميلانشون. أناه المتضخمة، تسلّطه، شعبويّته وديماغوجيّته، حساسيّته الضعيفة تجاه الديمقراطية داخل حزبه وخارجه، رأيه ببشار الأسد وبفلاديمير بوتين... أما أن يصبح معادياً للسامية لأنه ضد الصهيونية وإجرام إسرائيل، فإنما ذلك من دلالات أزمة ديمقراطية توصل أحياناً فاشيين إلى الحكم لحماية اليهود!