تحليلات فضائية عن ظهر قلب

29 يونيو 2023

(مهنا الدرّة)

+ الخط -

رجلٌ يحفظ ما يريد قوله جيداً، وكأنه ذلك الطفل من قرية مصرية بعيدة، فوق كتف جبلٍ أمام جلالة الملك في حصّة تعبير بمدرسة هادئة بعيدة، ومن حولهم أصص الورد والنعناع والفلّ من المشتل رأساً، وستعود كل الشتلات إلى المشتل فور ذهاب الملك إلى قصر الطاهرة، ومرّة تحدّق عيناه في وزير التعليم الذي وعده بجائزة قيمة، ومرّة أخرى يحدّق في طربوش جلالة الملك وتلك العصا المذهّبة تحت قبضته، والغريب أن التلميذ، الحافظ عن ظهر قلب، جيّد أيضاً في سبك العبارة من غير أن تخونه كَسرة أو ضمّة أو أي إعراب غريب.

معلومات من كراريس وأضابير الاتفاقيات الدولية المنسية وثمن غرام الذهب في روسيا القيصرية مع مقارنته بثمن غرام ذهب بوتين وعدد الغوّاصات الكامشة في مياه البحر الأسود بحذافيرها مع مقارنته بجنية ماري تيريز في أيام زهزهة الملكة البريطانية ومستعمراتها، وذلك كله من دون أن ينسى أو يتغافل عن عدد الصواريخ التي أنتجها عبد الناصر قبل بناء السدّ العالي وبعده، من دون أن يتطرّق، بالطبع، إلى مخاطر سد النهضة أو الملء الرابع للسدّ الذي بات على الأبواب، ومن دون أن يتطرّق إلى عبقرية المعمار في بناء السجون في زمن عبد الفتاح السيسي، ومن دون أن يشير، من قريب أو بعيد، إلى خمسة سجون أخرى تحت مسمّى "التأهيل"، في مدينة واحدة، مدينة 15 مايو. وسبق أن قضى الرجل في السجون سنة، وخرج بعدها كما يخرج أي ديك رومي من حظيرة ذهبية بريطانية، ويساق بالحرير والقزّ إلى القنوات الفضائية بكامل هندامه ولياقته النفسية والذهنية وحفظ هوامشه ومصادره عن ظهر قلب.

ما حدود تلك العبقرية الغريبة في الحفظ التي تصاحب الرجل في كل تحليلٍ عن قوّة بوتين العسكرية أو قدراته على ملاعبة الغرب وإفراغه ميزانية أميركا حتى آخر سحتوت عن أبواب أوكرانيا، أو قدراته على ليّ عنق أي حقيقة، واعتبار أن ما بين السيسي وقائد السبسي مجرّد نقطة واحدة، وأن ما بين السيسي وترامب كيمياء حيوية نابضة وخلاّقة، والأول، وهو السبسي، عند الله الآن، بعدما زالت النقاط والممالك، والثاني، وهو ترامب، يُحاكم جنائياً في 37 جريمة. ولن نتذكّر القذّافي بالطبع أو عبد الفتاح البرهان أو خليفة حفتر وأولاده أو غلاء الأسعار والدواجن، فإن ذلك يعتبر جريمةً وطنيةً نحاسب عليها في رأي عبد الحليم قنديل. أما لو رفضت دخول بشّار جامعة الدول العربية بعد تشريده الملايين وقتل ما يقرب من المليون، فسيعلّق لك قنديل المشانق في قناة "إكسترا". أما لو تطرّقت إلى الكباري (الجسور) وعدم جدواها أو قلة استراتيجيتها عالمياً أو حتى جدواها القليلة، فحتماً سيتم شنقك في أعلى كوبري، لأنك تعطّل مسيرة (وتشييد) دولةٍ تم خطفها بالسكر والزيت والصابون والنصّابين والمؤلفة قلوبهم والطامعين في الملك، وإن زدت في القول، فكلّ التهم معروفة سابقاً ومحفوظة عن ظهر قلب، فهل الكيمياء تفعل هكذا في عقول المحللين.

نحن أمام "قطار تعبيري سياسي تحليلي تفكيكي"، لا يقف عند أي محطّة، كقطارات السيسي السريعة إلى العلمين، أو كمشاريعه في الصحراء التي وصلت إلى عمق أربعة ملايين من الأفدنة للقمح في ضربة واحدة، من دون أن نرى القمح في السوق، ومن دون أن نرى ظلال المليون نخلة أيضاً، فقط نرى كلمات كتلك التي تتطاير من فم عبد الحليم قنديل ليلاً في القنوات الفضائية، من دون أن يعقب عليه سائل من الخارج أو معقّب.

أما كراتين "تحيا مصر"، تلك التي رأيتها، والله العظيم، من يومين فوق رؤوس النساء، قبل المغارب بساعة أو داخل بيوتات القرى، وكل سيدة على حجرها كرتونتها، فهي بالطبع في تحليلات عبد الحليم قنديل "موحّدة وشرعية ومصلية ومذبوحة وفقاً للشريعة"، وبالتالي، لا غبار عليها أبداً. أما السجون المشيدة والحصينة، فهي مساحة رحبة وغنّاء للتحاور وتبادل الرأي والمشورة والأفراح، وكما يقول أحمد فؤاد نجم: وان كان جرح قلبنا/ كل الجراح طابت.