بيزنطة الإدارية الجديدة... القاهرة سابقاً
لم تعرف مصر في تاريخها كله هذه العاصفة من العبثية الحضارية، التي تجتاح في طريقها كل شيء من الديني المقدّس إلى القومي المُصان بسياجٍ متينٍ من تراكم التجارب والخبرات، أو هكذا كنّا نظن.
يبدو المشهد الآن في مصر وكأنه يدار بأيادٍ سوداء توزّع الشر على الجميع، وتحرّض الكلّ ضد الكل، وتشعل صراعًا، بدأ نظريًا وكلاميًا، بين مكونات المجتمع الواحد، غير أنه من الممكن مع تغذيته وتأجيجه، أن يفضي إلى حالة من التفكك يعقبه السقوط، كما حدث في محطات تاريخية مشهورة.
تحيا مصر فوق فالق مجتمعي شديد الخطورة منذ أكثر من عشر سنوات، بفعل فاعل معلوم عرف أنه لن يستطيع أن يحكم مجتمعًا متجانسًا قيميًا، ومتعايشًا مع نفسه، فقرّر أن يستعدي بعضه على بعضه الآخر، لتصبح القسمة هكذا: الذين يؤيدون السلطة هم أبناء الوطن الخلصاء، والذين يعارضونها هما المارقون أعداء الوطن، وبناء عليه لا تتوقف عمليات تكفيرهم وتخوينهم.
الآن، تأخذ القسمة طابعًا أكثر خطورة، باصطناع حالة من الصراع الديني، جنبًا إلى جنب افتعال حالة قبائلية، إذ يتزامن الإعلان عن إنشاء تحالف أو اتحاد للقبائل، يمتلك السلاح والمال والنفوذ، مع الإعلان عن تدشين كيان أو "تكوين" يزعم تحرير الدين من وصاية المؤسسات الدينية ورجال الدين التقليديين، لكي يعيش في حدائق التنوير.
على الفور، بعد الإعلان عن اتحاد "العرجانية القبلية" جاء الرد سريعًا من قبائل عربية في مناطق مصرية أخرى قررت التصدي له، فأصدرت جماعة تطلق على نفسها "مشايخ القبائل العربية في الصعيد والغرب" في مصر، بياناً الخميس، هاجمت فيه تأسيس ما يسمّى "اتحاد القبائل العربية" الذي أعلن رسمياً قبل أيام برئاسة رجل الأعمال المقرّب من النظام المصري، إبراهيم العرجاني.
وأشارت الجماعة إلى أنها توجه بيانها للإعلام المصري وقيادة الجيش والشرطة وجميع أجهزة الدولة المصرية، قائلة إن "المدعو إبراهيم العرجاني لا يمثل القبائل العربية في مصر، وإن الاتحاد الوهمي للقبائل العربية، باطل بعرف العرب ولا يستند إلى شرعية".
والأمر نفسه يتكرّر مع الاحتفال بالإعلان عن اتحاد "العرجانية التنويرية" الذي اختار له أصحابه اسم "تكوين"، والذي يزعم إنه جاء لدعم الدولة المصرية بتجديد دينها الرسمي وإنارته، فيأتي الرد بسرعة من مجموعة من مشايخ السلفية أعلنت عن تدشين كيان مضاد باسم "تحصين" لحماية الدين من هجمة جماعة "تكوين".
إذن، وبينما خطر وجودي حقيقي يتهدد الكل من ناحية الشرق، حيث عدو يبدع في إهانة وطن كبير اسمه مصر وخدش كرامته، ولا يترك مناسبة إلا ويصدر رسائل بأن القاهرة حليفته وشريكته في الحرب على الإرهاب، الذي هو المقاومة الوطنية الفلسطينية، بنظر الاحتلال وإبراهيم عيسى وجحافل التكوينيين، ها هي اليد الشريرة البارعة تضع الشعب المصري كله في اشتباك بيزنطي عنيف، يتصارع فيه الأوصياء على العقل مع الأوصياء على النقل، وصولًا أو نكوصًا وارتدادًا في عمق التاريخ لإحياء الصراع بين النقل والعقل، وبموازاة ذلك يستدعى النزاع القبائلي، على من الأقرب للوطن وحكامه، ومن الأكثر انتسابًا لعروبته، في طقس يشبه وضعية بيزنطة القديمة حين استثمر فاتحوها انشغال طبقاتها الدينية والثقافية بالنزاع حول جنس الملائكة، وهو النزاع الذي انتقل إلى المجتمع كله فتفكك وتهاوى مع أول هبة رياح.
هذا العبث المشتعل في أرجاء مصر الجديدة، التي ضجت بالقاهرة عاصمتها القديمة، واتخذت لنفسها عاصمة زجاجية جديدة، يبدو أن هناك من يرعاه ويدعمه ويستثمر فيه، بالداخل والخارج، في سياق مشروع يجري تنفيذه على قدم وساق، بحيث لا يبقى جدار واحد ثابتًا في مكانه، وما يثير الأسى أكثر أن بمصر مؤسسة اسمها "الأزهر الشريف" كانت طوال تاريخها حامية للنقل والعقل معًا، بوصفها الأكثر جدارة بالتجديد الديني، لكنها الآن تكاد تكون قد هُمِشت منذ قرر أهل الحكم أن يجمعوا بين السلطتين السياسية والدينية معًا، حتى وصل الحال إلى أنها صارت في مواقع المتفرجين على هذه العركة المبتذلة.