بلينكن معتدلاً بين متطرّفين

30 مارس 2022

بلينكن ينصت إلى وزير الإمارات بعد اجتماع "قمة النقب" (28/3/2022/Getty)

+ الخط -

لكي تكتب عن موضوع غير الحرب الروسية على أوكرانيا هذه الأيام، عليه أن يكون مقنعاً للغاية، أو مقرفاً جداً أو شديد الإثارة للغضب أو للفضول. جميع هذه العناصر اختصرها زوّار مزرعة بن غوريون في النقب قبل يومين. الاجتماع أريد له أن يكون تاريخياً في كل شيء، وهو كان كذلك بالفعل، لكن لا بالمعنى الذي قصده وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، احتفاءً وتعظيماً، بل كان تاريخياً من الناحية الموضوعية: هي المرة الأولى التي يتقاطر فيها أربعة وزراء خارجية عرب دفعة واحدة إلى إسرائيل، مثلما عنونت صحيفة يديعوت أحرونوت قبل يومين صفحتها الأولى. كان تاريخياً في المبالغات أيضاً، فقد سُمي "قمّة النقب" مع أن القمم تكون لرؤساء الدول لا لوزراء الخارجية. عقد الاجتماع في المكان الذي مات فيه دافيد بن غوريون وفي النقب تحديداً، حيث تجري أوسع عملية تهجير حالياً لأصحاب الأرض العرب، وحيث استقبلت إسرائيل ضيوفها بالإعلان عن مشروع بناء 5 مستوطنات، في ذلك كان تاريخياً أيضاً. والتاريخي يجوز إسقاطه أيضاً على العشاء الذي تناوله الوزراء، وهو طبق لحم من الجولان، يقدّم إلى جانب رزٍّ يسمّى رز بن غوريون، كما أخبرنا الصحافي أحمد دراوشة في ترجمته لقائمة الطعام التي أعدها فندق "إسروتيل". وهو كذلك تاريخي لأن الوزراء العرب الأربعة لم يساووا انحيازهم لإسرائيل ضد الفلسطينيين بانحياز زميلهم الأميركي، أنطوني بلينكن، فالأخير زار رام الله للقاء المسؤولين هناك احتراماً للبروتوكول على الأقل، بينما نظراؤه العرب لم يفعلوا. وبلينكن، في ميزان التصريحات التي أعلنها في النقب وفي لغة الجسد خلال دقائق الاستعراض أمام الكاميرات، وفي جدول أعمال زيارته، كان الأكثر اعتدالاً أيضاً. بلينكن، المحسوب على يمين الحزب الديمقراطي، والذي لا يخفي انحيازه المطلق لإسرائيل، كان أكثر رزانة واحتراماً لنفسه. كان ينظر إلى الخمسة الآخرين ويسأل نفسه ربما لماذا يضحك هؤلاء بهذا الشكل المبالغ به؟ عندما كان عليه أن يضع موقفاً سياسياً (بما أنّ لا بيان صحافياً صدر عن اللقاء السداسي)، قال كلمتين، باهتتين، لكنّهما على بهتانهما لم يصدرا عن أي من الوزراء العرب: علينا أن نكون واضحين. إنّ اتفاقات السلام الإقليمية هذه (اتفاقات أبراهام) ليست بديلاً عن التقدم (في المفاوضات) بين الفلسطينيين والإسرائيليين". حتى ابتسامات بلينكن كانت الأكثر وقاراً مقارنة مع قهقهات الوزراء الخمسة الآخرين.

أما في التصريحات العربية، فالتاريخ يتحدث عن نفسه؛ سامح شكري قال: "نرى تطورات إيجابية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل". لم يقل ما هي هذه التطورات الإيجابية طبعاً. زميله المغربي ناصر بوريطة اعتبر أن "وجودنا هنا أفضل رد على العمليات الإرهابية". حِكمة قابلها يئير لبيد بأن إسرائيل تؤيد الموقف الغربي بحذافيره في ما يتعلق بقضية الصحراء. أما عبد الله بن زايد، فهو متيّم بالتاريخ ومعروف بفكره الموسوعي: "هذه لحظة تاريخية لكلّ من هم على المنصة وفي القاعة وخارجها، ما نحاول فعله هو تغيير السردية وبناء مستقبل مختلف". إذاً، لا يتعلق الأمر بالنسبة للإمارات بأقل من "تغيير السردية".

تغيب السياسة عن القضية الفلسطينية عند معسكري "المقاومة" بجناحيه الفلسطيني المحلي والإقليمي الممانع ــ المتاجِر، ومعسكر الحلّ السلمي أيضاً بفرعه الفلسطيني الداخلي وعربه الذين فهموا السلام على أنّه تحالف ضد الفلسطينيين وكرهاً لهؤلاء وإفصاحاً وقحاً عن عنصرية ضدهم. الطرف الأول ينزع السياسة عن الموضوع عندما يعتبر أنّه صراع ديني (على ما أتحفنا به إسماعيل هنية في أغسطس/آب 2021)، وعندما لا يقرأ الواقع ولا موازين القوى والتحالفات، وحين يصوّر عملية لداعش في إسرائيل على أنّها انتصار ينضم إلى سلسلة الانتصارات الإلهية. أما فلسطينيو الحلّ السلمي، وعرب التحالف مع إسرائيل، فإنّهم يدفنون السياسة كلّ يوم عندما يعربون عن هذا الكمّ من كره الذات والميوعة المقرفة في حضرة المسؤولين الإسرائيليين، وعندما يظنون أنّ نيل الرضا الأميركي يحصل بشبك الأيدي مع حكام تل أبيب، ولمّا يفهمون الحلول السلمية على أنّها اصطفاف في صفّ الطرف الأقوى في المعادلة (الإسرائيلي) لإنهاء أي أثر للطرف الأضعف (الفلسطيني). بالنسبة لهؤلاء، عندما يُطاح بالفلسطينيين من المعادلة، لا تبقى هناك قضية تحمل اسمهم، وبالفعل يتحقق السلام، ولو حصل ذلك على أنقاض قبور كثيرة، ثم يكون الاحتفال عند قبر بن غوريون.