انتخابات تونس بين المشاركة والمقاطعة

17 اغسطس 2024
+ الخط -

انتهت جولة تقديم الترشيحات في تونس بإقصاء النظام معظم المترشّحين عبر هيئة الانتخابات ووزارة الداخلية، التي منعت حصول أغلبهم على وثيقة بطاقة السوابق العدلية التي اشترطتها الهيئة ضمن أوراق الملفّ، إلى جانب التضييقات الأمنية على المترشّحين وممثليهم في سباق جمع التزكيات الشعبية، وإلغاء الآلاف منها بعد تقديمها من دون أدنى شفافية، قبل أن يستكمل بعض المرشّحين ما وقع إعلامهم بإلغائه، ولكن من دون جدوى، لأنّ القرارالسياسي كان يقضي بعدم مرور الأسماء التي تمثّل تهديداً بالمنافسة الجدّية لقيس سعيّد ونظامه، وتحظى بدعم جزء من الخزّانات الانتخابية التقليدية.

بغض النظر عن فضيحة المجزرة الانتخابية التي ارتكبتها دوائر الحكم والقرار في تونس، إلا أنّ قرار المشاركة في الانتخابات كان فرصةً لمزيد من تعرية هذه السلطة الشعبوية، وفضح سلوكها القمعي الإقصائي، وإسقاط ورقة التوت عن دعاوى الرئيس، وما تبقّى من أنصاره، المتعلقة بالزخم الشعبي، وتمثيله لإرادة الشعب، الأمر الذي تجلّى في الخوف من خوض غمار المنافسة العادلة والمرور إلى خطّة اختيار المنافسين.

جولة أولى أربكت سعيّد ومؤسّساته، وخلصت إلى ثلاثة أسماء متنافسة على كرسيّ قرطاج؛ رأس النظام الحالي، والوجه الآخر له، أمين عام حركة الشعب (القومية) المساندة لسعيّد، زهير المغزاوي، والنائب عن الكتلة الوطنية في البرلمان المنحلّ ورئيس حركة عازمون عياشي زمال، في انتظار نتائج الطعون التي تقدّم بها بعض المرشّحين للمحكمة الإدارية ممن رفضت الهيئة ملفّاتهم على غرار عماد الدايمي، وعبد اللطيف المكّي، ومنذر الزنايدي.

كان الخروج من قرار المقاطعة إلى الترشّح والمنافسة تحدّياً صعباً في دائرة المعارضة، وسط تخوفات من إضفاء الشرعية على نظام فرض نفسه بالانقلاب وسلطة الأمر الواقع، ولعدم توفّر الأجواء المناسبة لانتخابات نزيهة وشفّافة، ولكن هذه الخطوة أنعشت الحياة السياسية والنقاش في الشأن العام، بقدر ما تجرَّأت فيه السلطة على ممارسة الإقصاء، وهو ما جعل خيار المشاركة من عدمه يعود إلى طاولة النقاش، في غياب أسماء تُذكَر تمثّل الأحزاب أو التيّارات السياسية التقليدية والمُعارِضة.

لم يكن خيار المقاطعة في محطّة الاستفتاء على الدستور الذي فرضه سعيّد (25 يوليو/ تمّوز 2022) أو في الانتخابات البرلمانية المُبكّرة (ديسمبر/ كانون الأول – يناير/ كانون الثاني 2022) أو في انتخابات المجالس المحلّية (ديسمبر 2023) خياراً ناجعاً، ولم يحرج السلطة القائمة في تمرير مشاريعها وتنفيذ رزنامتها بما تيسّر من نسب مشاركة هزيلة، بالكاد تجاوزت 10%، ولم يسبق لها مثيل في تونس، كما لم تضع المقاطعة حدّاً لبطش النظام بالمعارضين، ولا لنهمه على السلطة، فمن يستحوذ غصباً على سيادة شعب، سيمارس نفوذه كلّه أيضاً لإخراس الأفواه كلّها، المُحرِّضة على "الفتنة" و"عدم الاستقرار"، وفق الرواية الفرعونية، بل وسيسعى لسحق وتغييب كلّ من يمثل وجوده ونشاطه تحفيزاً لذكرى لصوصيته أو لاستدعائها. وتساءل عديدٌ من النشطاء والحقوقيين في تونس عن مآلات المقاطعة في الانتخابات الرئاسية، غير تثبيت النظام رأسَه وأركانه، متدثّراً بشرعية مزعومة، ليستكمل مشروعه الاستبدادي، في مقابل توفّر فرصة مزاحمته وسلبه مشروعية المرور من الدور الأول، في الأقل، أو تغييره، رغم قوانين اللعبة المُجحِفة التي وُضعت.

واقع الحال يفرض مسؤوليةً أكبرَ في المشاركة لتحقيق هدف التداول أساساً، إن استطاعت الإرادة الشعبية إليه سبيلاً

وقد أعلنت المحكمة الإدارية انطلاقها في مسار البتّ في الطعون المُقدّمة إليها، وهي خطوة مهمة في استكمال معركة الحقوق السياسية والمدنية إلى مداها. ومن جهة أخرى، يظلّ المرشّح المستقل عياشي زمال ورقةً يمكن الرهان عليها والاصطفاف خلفه، لا سيما إذا لم تأتِ قرارات المحكمة بجديد، إذ يتمثّل الهدف الأساسي من المشاركة الانتخابية في إنهاء حكم قيس سعيّد بالصندوق، ووضع قوسين لنزيف الانهيار الشامل الذي يزحف على المجالات والقطاعات كلّها، الهدف هو تحقيق تداول السلطة، وإزاحة الحاكم الحالي، كل ما يزيد عن هذا المكسب فهو خيرٌ، وكلّ ما ينقص منه لن يجعل حال البلاد أسوأ ممّا هي فيه، هذا ما يفرض تعاملاً واقعياً وعقلانياً مع ديناميكية الواقع والمتاح من الفرص، بعيداً من الركض خلف السراب، أو انتظار لحظة الانفجار الثوري، أو المواصلة في المقاطعة والعزوف بسبب تغييب مرشّحين عن التيّارات السياسية والفكرية الكبيرة في تونس، الذي لا يمثّل حُجَّة إلا على أصحاب هذا القول بعد اصطفاف الأحزاب الكبرى في انتخابات 2019 في الدور الثاني منها خلف مرشّحَين لا يمثّلان العائلات السياسية التقليدية في تونس، ولا يُعدَّان رمزيْن في الساحة السياسية. ومع ذلك، انخرط الناخبون في العملية الانتخابية وفق تقدير المصالح والاختيار حسب الممكن وضمن المتاح، ما أدّى إلى صعود قيس سعيّد على حساب غريمه نبيل القروي.

إلا أنّ واقع الحال يفرض مسؤوليةً أكبرَ في المشاركة لتحقيق هدف التداول أساساً، إن استطاعت الإرادة الشعبية إليه سبيلاً، رغم الصعوبات والمخاوف، والتخفّف من أعباء الأيديولوجيا قليلاً، والكفّ عن الغوص في متاهة البحث عن الزعامة المفقودة، والقائد المُخلّص، الذي لن يأتي راكباً صهوة جواده لإنقاذ العباد والبلاد، ما لم يدركوا أنّ الحقوق تفتك ولا تهدى، وأنّ الله لا يغير ما بقوم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم.

لن تمطر السماء قادةً مُصلحين، ولن تنبت الأرض ثورةً من دون وعي كلّ فردٍ بقدرته على التغيير

لم تكن خيارات الناخبين في العديد من المحطّات التي شهدتها دول مفتوحةً وفق ما تشتهيه أفكارهم الحالمة، وليست العملية السياسية كقائمة الأطعمة المُقدّمة في المجالس الفارهة، ليختار منها المستهلك ما يُسكت جشعَ بطنه، بل تخضع أحياناً كثيرة للموازنات، إذ يكون دفع المخاطر مُقدَّم على جلب المصالح، وهذا ما حصل في آخر انتخابات فرنسية مثلاً، من خلال إعادة التصويت لحزب الرئيس ماكرون المهترئ شعبياً، إلى جانب اليسار، تصدّياً لصعود اليمين المُتطرّف، من دون التفكير في هجانة المشهد النيابي وصعوبة التشكيل الحكومي، الذي يُعَدُّ ثانوياً أمام مخاطر أخرى، كذلك اصطفاف الديمقراطيين الأميركيين خلف كامالا هاريس في مواجهة دونالد ترمب، والتي لم تكن ضمن الخيارات الأولى للحزب وناخبيه، ولا في صدارة استطلاعات الرأي كغيرها من الأسماء الثقيلة، ولكنّ السياقات والضرورة السياسية جعلتها المرشّحة الديمقراطية لرئاسة الولايات المتّحدة.

ورغم الاختلاف الكبير بين هذين المثالين والواقع السياسي التونسي من جوانب كثيرة في مستوى ديمقراطية الحكم والمؤسّسات، واختلاف الرهانات والسياقات والفاعلين، إلا أنّ المقصد من التشبيه هو إمكانية خضوع الناخبين لمعادلات صعبة ومنقوصة في جانبيها كليهما، في عملية الاختيار والتقرير، تكون محفوفةً بالمحاذير، حتّى في أعتى الديمقراطيات.

بين بقاء قيس سعيّد في سُدَّة الحكم من دون منافسة أو مزاحمة، وممارسة المواطنين حقَّهم المدني الأسمى في التصويت وتقرير مصيرهم، وإمكانية فرض خيارات جديدة أو فتح أفق للتغيير، لن تمطر السماء قادةً مُصلحين، ولن تنبت الأرض ثورةً من دون وعي كلّ فردٍ بقدرته على التغيير.