قيس سعيّد يحرق سفنه كلّها
نجح الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في تحويل القضاء من سلطة إلى وظيفة، وفي استعماله وفق ما تقتضيه أجندته السياسية للبقاء في السلطة والتضييق على معارضيه، لتكون التعليمات الموجّه الرئيس في إصدار الأحكام، بعيداً عن مفاهيم العدالة والنزاهة والاستقلالية وقيمها.
أعلن قيس سعيّد بعد انقلابه (25 يوليو/ تمّوز 2021) توليه صلاحيات رئيس النيابة العمومية، وقام بحلّ الهيئات القضائية، وأعفى قضاة تعسّفياً، وأصدر دستوراً يُكرّس تبعية القضاء للسلطة التنفيذية. ومن أجل إنجاح هذا التحوّل في دور المؤسّسة القضائية مؤسّسة تابعة لسلطة القصر إجرائياً، أصدر سعيّد المرسوم عدد 11 لسنة 2022، معلناً حلّ المجلس الأعلى للقضاء في 12 فبراير/ شباط 2022، الذي ينصّ على إنشاء هيئة بديلة تسمَّى المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء. ثمّ عزل أكثر من 50 قاضياً في يونيو/ حزيران 2022، من دون الاستجابة لقرارات المحكمة الإدارية، التي تفيد بضرورة عودتهم لمهامّهم.
في 23 يناير/ كانون الثاني 2023، قدَّم 37 قاضياً (من بين من عُزلوا) شكاوى جنائية ضدّ وزيرة العدل لعدم امتثالها لقرار المحكمة الإدارية، من دون أن يُحرز الملفّ أي تقدُّمٍ إلى الآن. إثر ذلك، وبعد الاستفتاء على الدستور الجديد في 25 يوليو/ تموز 2022، تعزَّزت صلاحيات الرئيس في منحى المراسيم المنشورة منذ ذلك التاريخ بشكل مكَّنه من إحكام قبضته على تشكيلة المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء، ومنحه الحقّ في إعفاء القضاة متى أراد ذلك. واستعمل الرئيس التونسي (عبر وزيرة العدل) أدوات الدولة كلّها لترهيب القضاة، وتفتيت هياكلهم، وتحويلهم أدواتٍ للنظام، وناطقي أحكامٍ جائرة وجاهزة، سواء ضدّ زملائهم أو ضدّ المعارضين والحقوقيين والصحافيين. لتبرز مُجدَّداً أهمّية رهان قيس سعيّد على تدجين القضاء، خلال هذه الأيام التي تسبق انتخابات الرئاسة المزمع عقدها في 6 أكتوبر المقبل، إذ لم تتوانَ الوظيفة القضائية عن ملاحقة المُترشّحين الجِدّيين للرئاسية كلّهم، والمنافسين المفترضين لسعيّد.
لم يتّعظ قيس سعيّد من التاريخ المحكوم عليه بالحركة والتغيير، ولم ينتبه إلى أصوات الناس الرافضة والغاضبة
ورغم قرارات المحكمة الإدارية المشرّفة مُجدَّداً، والمنصفة لعدد من المُترشّحين الذين تظلّموا من إسقاط هيئة الانتخابات ترشيحاتهم، وصدور أحكام باتّة في عودتهم إلى السباق، فإنّ هيئة انتخابات الرئيس رفضت تطبيق القرارات، ولجأت إلى قضاء التعليمات، ليستكمل ضغوطه وملاحقاته في حقّ المُترشّحين، الذين تحوّلوا متّهمين بعشرات القضايا والجرائم، وجرمهم الأكبر محاولة إزاحة الزعيم الشعبي، والناطق باسم الأمة التونسية، والمفوّض منها بالحكم وحماية السيادة الوطنية إلى أجل إتمام مهام التطهير ومحاربة الفساد، كما يدّعي!
طاولت الملاحقات المُترشحين عماد الدايمي، ومنذر الزنايدي، وعبد اللطيف المكّي، والصافي سعيد، ومراد بن مسعود، وآخرين، ورغم نجاح هيئة انتخابات الرئيس في مهمّة إزاحتهم واستبعادهم من المنافسة، فإنّ ما يطال المُترشّح العياشي الزمّال من مظالم قضائية، بعد إعلان اسمه رسمياً ضمن المُترشّحين الرسميين للرئاسة التونسية، لا يمكن لعقل أن يتخيله، ولا لشاهد أن يصفه. فبعد أن أفلت الزمّال من فخاخ هيئة الانتخابات وقع في قبضة القضاء والتهم المُفبرَكة، ليجد نفسه متّهماً بعشرات القضايا، حسب ما أعلنته هيئة دفاعه، وعوض أن يخوض حملته الانتخابية بين أنصاره وفريق حملته، يجد نفسه معتقلاً في سجون غريمه. استطاع سعيّد إرساء وظيفة قضائية همّشت أدوار السلطة القضائية التي تسعى خلف العدالة، ومن ثمّ يتم اللجوء إلى هذه الوظيفة لتقويض الأحكام التي لا ترضي رأس السلطة، أو لاستتباعها بقضايا مُفتَعلة، مثلاً ضدّ المُعارضين أو المُرشّحين، الهدف منها الإنهاك والمحاصرة والتشفّي.
تستعدّ تونس للانتخابات بعد أسابيع قليلة في غياب كلّي لمناخ انتخابي سليم، أو حدّ أدنى من الديمقراطية والحرّية والمساواة بين المُترشّحين، وسط حملات اعتقال جديدة شملت قياداتٍ مركزية وجهوية لحركة النهضة، يبدو أنّها لدفع الحركة لتجنّب المشاركة أو الخوض في الشأن الانتخابي من قريب أو من بعيد، وفي ظلّ استبعاد هيئة الانتخابات عدداً من الصحافيين من المتابعة الإعلامية، بسبب مواقفهم من بعض إجراءات الهيئة، وسحب اعتماد عدد من الجمعيات، التي شاركت على مرّ المناسبات الانتخابية السابقة خلال عشرية الثورة في عمليات الرقابة يوم الاقتراع، من أجل مواقفها أو بياناتها المُندِّدة بمضي الهيئة في تنظيم الانتخابات.
تستعدّ تونس للانتخابات الرئاسية في غياب مناخ انتخابي سليم، أو حدّ أدنى من المساواة بين المُترشّحين
واضح أنّ سعيّد يخوض معركته المصيرية للبقاء في الكرسي، مستعملاً أوراقه وأدوات السلطة كلّها من دون مواربة أو خجل، حتّى إنّه لم يترك منافساً له حرّاً طليقاً إلّا المُترشّح زهير المغراوي، الذي كان أحد أكثر داعميه أهمّية في خطوات الانقلاب كلّها، ولم يتردّد في تغيير جُلّ وزراء حكومته ومسؤولي المحافظات خلال الزمن الانتخابي، المفترض (عُرفاً وقانوناً) أن تقف فيه الإدارة على الحياد، وتصرّف الأعمال إلى حين إتمام العملية الانتخابية.
الرئيس التونسي بصدد حرق سفنه كلّها، وكتابة اسمه إلى جانب سابقيه، ممن اختاروا طريق الاستبداد والظلم، ليجد نفسه ذات حين؛ البحر من ورائه والشعب من أمامه. لم يتّعظ قيس سعيّد من التاريخ المحكوم عليه بالحركة والتغيير، ولم ينتبه إلى أصوات الناس الرافضة والغاضبة، التي تتّسع دائرتها يوماً بعد يوم، بسبب سياساته الخاطئة، وفشله الذريع في جُلّ الملفّات، حتّى تلك التي ادّعى فيها علماً وفلسفة، من قبيل الصلح الجزائي والبناء القاعدي والشركات الأهلية، ولم يفهم أنّ شرعية بقائه لن يستمدّها من أجهزة الدولة، أو من انتخاباتٍ في شكل مسرحية أو مهزلة، أو من سردية مهترئة يُكرّرها مراراً بلغة رثَّةٍ وبأداءٍ ركيك، بل يستمدّها من نزاهة الصندوق، وإرادة الشعب الحرّ.