الإنصاف المستحيل
يقول طلابي في الجامعة إنهم لم يكونوا على معرفة بما يجري في غزّة قبل أن يشاهدوا التقارير الإخبارية والوثائقية التي شاهدناها سوياً في معرض دراسة الاعلام العالمي، بما في ذلك التغطية المؤلمة لتفاصيل حياة في ظل حرب إبادةٍ لا تشبه أي حياة إنسانية. يقول لي الطلاب الشبّان، وغالبيّتهم غربيون٬ إنهم يشعرون بالحزن٬ بالغضب، بالصدمة. أسألهم إن كانوا يتوقعون ما شاهدوه فيقولون لا. ما يرونه على شاشات التلفزة حربٌ من نوع آخر٬ حربٌ تقليدية، لا دماء فيها ولا انتزاع للإنسانية. حرب عادية هادئة.
نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية أخيراً رسالة وقعها أكثر من مئتي صحافي في الإعلام البريطاني، بينهم مائة في شبكة الإعلام البريطاني العمومي (بي بي سي) يحتجّون على ما يرونه انحيازاً لإسرائيل في التغطية للحربين على غزّة ولبنان. يقول الموقّعون، وهم إعلاميون من اختصاصات ومشارب متنوعة٬ إنهم مصدومون لغياب التغطية المُنصفة والمعتمدة على حقائق في تغطية الحرب على غزّة خصوصا في محطات التلفزة. تحكم التغطية في المحطات تصنيفاتٌ وقوالبُ ساهمت، إلى حد كبير، في تجميل الوجه المقيت للإبادة. يعتبر الموقعون أنه إذا كان على الإعلام المتلفز أن يذكر أن أرقام الضحايا مصدرها وزارة الصحة التابعة لحركة حماس في غزة أو أن "حماس" منظمة محظورة، فبالأحرى على هذه السردية التي تدّعي الموضوعية التذكير أن إسرائيل تمنع الصحافيين من التغطية من داخل القطاع، ما يعني أن لا مجال للتحقق من الوقائع، بما في ذلك حجم القتل، وأنه لا مجال للتحقّق من صحّة الادعاءات الإسرائيلية، وضرورة الوضوح في نسبة أعمال القتل إلى القاتل، أي الإشارة بوضوح إلى أن آلة الحرب الإسرائيلية وراء القتل، بما في ذلك في عناوين التغطية الإخبارية وتمثيل الضيوف والمحاورين من الجانبين بطريقة متوازنة، فضلا عن تقديم الإطار التاريخي للنزاع منذ ما قبل 7 أكتوبر (2023)، وهو أمر أساسي لضمان تغطية إعلامية كاملة لا تزال غائبة إلى حد كبير عن شاشات التلفزة. تخلص الرسالة إلى أن "كل تقرير متلفز أو مقال أو مقابلة إذاعية يفشل في مقارعة الحجج الإسرائيلية بقوة يؤدي بشكل منهجي إلى نزع إنسانية الفلسطينيين" ضحايا الابادة.
صدمة لغياب التغطية المُنصفة والمعتمدة على حقائق في تغطية الحرب على غزّة خصوصا في محطات التلفزة
تعتبر مقارعة وجهات النظر والتحقق من الوقائع حجر الأساس للتغطية الإعلامية المهنية المتوازنة. وهي أيضا أساس الموضوعية التي يبدو أن التغطية الإعلامية للحرب على غزة وضعتها على الهامش، أو اختارت قوالب جديدة لتعريفها. تثير الموضوعية نقاشات داخل المؤسسات الإعلامية الغربية، خصوصا في التعامل مع انقسامات حادّة، كمثال الانتخابات الرئاسية الأميركية أخيراً، حيث عمّمت الحملة الانتخابية للرئيس المنتخب ترامب سرديات عنصرية معادية للمغتربين وللنساء، تجعل التعامل معها باعتبارها مجرد وجهة نظر أمرا مستحيلا. ماذا عن فرضية الحياد في الصراعات العنيفة أو الازمات الحادّة أو في حال انتهاكات خطيرة للحريات والحقوق؟ هل يكون الحياد والتوازن ممكنين بين القاتل والضحية؟ وهل يمكن انتزاع العلاقة بين القاتل والضحية من الإطار التاريخي للنزاع والتجارب الشخصية والجماعية للجهتين عبر اختصار النزاع بمجرد الحدث العنيف؟
ثمّة تغير واضح، أخيراً، في التغطية الإعلامية لحرب الإبادة في الجانب الإنساني، أقله، بعدما باتت أصوات الضحايا أقوى في الإعلام الغربي (مع محاولة تفادي عثرات التعميم)، خصوصا عبر بثّ أفلام وثائقية نقلت تفاصيل حياة دون الإنسانية في ظل القتل المجاني والسادي لآلة الحرب الإسرائيلية في غزة وخارجها. من أبرز هذه المساهمات الشريط الوثائقي لشبكة بي بي سي "الحياة والموت في غزّة" الذي ينقل مشاهد من حياة أربع عائلات فلسطينية تحاول الاستمرار في ظروف غير إنسانية متعايشة مع نزوح متواصل وغياب معنى الأمان. الفيلم الذي يعتمد بالكامل على مشاهد التقطها أفراد العائلات الأربع يسلط الضوء على قدرة هؤلاء الفائقة في الاستمرار رغم ظروف شديدة القسوة، ويبرز الجانب الإنساني من حيواتهم باعتبارهم بشراً، مثل الغربيين، على نقيض حملة الشيطنة الإسرائيلية التي تبرزهم إرهابيين محتملين. هم أيضا لديهم أحلام وقدرة على الاستمتاع بالحياة متى كانت ممكنة.
كل تقرير إعلامي يبسّط الحدث بأن يخرجه من إطاره يساهم في نزع إنسانية ضحايا الإبادة وهي تنزع عنهم كل يوم
لعل أحداث أمستردام أخيراً، وانتصار سردية إعلامية تقدّم مشجعي فريق مكابي تل أبيب الرياضي ضحايا "مذابح" (بوغروم) تذكّر بتاريخ اضطهاد اليهود في المذابح الأوروبية، أبرزت أن السردية في معظم الاعلام الغربي لم تبتعد كثيراً عن لغة "النور والظلام" التي استخدمتها إسرائيل لتبرير الإبادة في غزّة. وقد سارع معظم الإعلام إلى تبنّي التصريحات الرسمية الإسرائيلية عن توصيف الهجمات على مشجّعي الفريق الاسرائيلي حلقة جديدة في اضطهاد اليهود من معتدين غالبيتهم العظمى من المهاجرين المغاربة، من دون ذكر عنف المشجّعين، بما في ذلك ترديد شعارات تدعو إلى قتل العرب وتحتفل بالإبادة. تميزت قناة سكاي نيوز البريطانية عبر نشر تقرير مباشرة بعد الحدث شرح ملابسات الحادث وعنف المشجّعين الإسرائيليين، قبل أن تسحب القناة التقرير من دون تبرير.
أعاد تقرير نشرنه أخيراً صحيفة الغارديان البريطانية تحرّي شريط الأحداث ليظهر كيف أنها بدأت بمهاجمة أحد المشجعين الإسرائيليين سائق سيارة أجرة في أحد أحياء العاصمة الهولندية، بعدها ردّد مشجّعون شعاراتٍ معادية للفلسطينيين ونزع علم فلسطيني رفع في واجهة مبنى مجاور، في حين عمد آخرون إلى نزع علم فلسطيني في مبنى في حي آخر، قبل أن يتجمّع قسم منهم في ساحة في وسط المدينة، ليردّدوا الشعارات نفسها. كان علينا أن ننتظر تقرير "الغارديان" المزوّد بالصور والخرائط، حتى تتضح الصورة، ولو أن الاعلام، في الغالب، لم يصحح التغطية أو يكملها بالمعطيات الجديدة. سارعت عمدة أمستردام، فيمكي هالسيما، وقتها إلى التنديد بما اعتبرته "كوكتيل سام من معاداة السامية وشغب كرة القدم والغضب من الحرب في فلسطين وإسرائيل ومناطق أخرى في الشرق الأوسط". اعتذرت لاحقا لتقول إنها استخدمت تعبير "بوغروم" لنقل حالة الخوف لدى يهود يعيشون في العاصمة تواصلت معهم، وأنها كانت تحت ضغط التصريحات الإسرائيلية التي استخدمت هذا المصطلح، قبل أن يتسنّى لها ولفريقها استكمال التحقيق في الحادث، معترفة بأن الكلمة جرى تسييسها من باب الاستخدام السياسي للحادث.
كل تقرير إعلامي يبسّط الحدث بأن يخرجه من إطاره يساهم في نزع إنسانية ضحايا الإبادة وهي تنزع عنهم كل يوم.