الرواية البديلة خارج القطيع

10 ديسمبر 2024

لويس ماركوسي (Getty)

+ الخط -

خسر الإعلام التقليدي في ضفّتي الحرب بين لبنان/ فلسطين وإسرائيل المعركة من أجل الحقيقة. خسرها الإعلام الإسرائيلي عندما تحوّل بوقَاً لآلة الحرب الإسرائيلية عبر التعمية على جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش في غزّة باسم محاربة الإرهاب، وعبر مهاجمة كلّ من يخرج عن السردية الرسمية بشأن حرب الإبادة باسم معاداة السامية. في الجانب اللبناني، خسرت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام المعركة من أجل الحقيقة، عبر التعمية على الهزيمة المروّعة والتفتت غير المسبوق للمجتمع اللبناني، وتحوّل بعضها منصّةً لترديد خطاب خشبي حول "انتصار" و"كرامة" وغيرها من الشعارات الرنّانة، التي تريد أن تمحي آثار تجربة حرب مدمّرة.
في الإعلام الإسرائيلي التقليدي، خرجت صحيفة هآرتس من القطيع، إذ قرّرت السير عكس التيّار، أولاً عبر الاعتراف بجرائم الحرب التي يرتكبها الجيش، وثانياً عبر توثيق هذه الجرائم بشكل متواصل رغم حملات التخوين والاستهداف المباشر أحياناً. الصحيفة (يصمها منتقدوها بأنها قناة الجزيرة، باعتبار أنّها "خانت" مجتمعها)، نشرت أخيراً مقالاً عن موقفها من تغطية الحرب في غزّة بما هي عليه جريمةَ حرب، ردّاً على إجراءات المقاطعة الاقتصادية التي تتعرّض لها الصحيفة بقرار من الحكومة، عقاباً على استقلاليتها، فضلاً عن حملات التشويه والتخوين اليومية إلى حدّ مهاجمة مراسليها، أو عدم الردّ على أسئلتهم في المؤتمرات. تذكر آلية العقاب ما تتّبعه الأنظمة في منطقتنا من دون أن تدّعي أنها ديمقراطية، على سبيل المثال حملة المقاطعة الاقتصادية للصحافة المستقلّة في المغرب، وما نتج عنها من إغلاق العديد من هذه المشاريع لتعذّر قدرتها الاقتصادية على الاستمرار، إلى جانب حملات التشويه والتخوين اليومية للصحافيين المستقلّين ومقاضاتهم في قضايا تتعلّق بشؤون خاصّة.

في الإعلام الإسرائيلي التقليدي، خرجت "هآرتس" من القطيع، فقرّرت السير عكس التيّار، اعترافاً بجرائم حرب جيش الاحتلال وتوثيقاً لها 

تحت عنوان "نتنياهو لن يسكتنا"، كتبت "هآرتس" أن الفريق الصحافي "واجه تحدّياً عاطفياً، ومهنياً كبيراً، في غرفة التحرير (بعد هجمات 7 أكتوبر 2023)، إلا أنه رغم هذه الصعوبة غير المسبوقة، كان علينا أن نتمسّك بمهمتنا الصحافية المتمثّلة في تأمين التغطية الأوسع للحرب"، التي شملت أيضاً، بحسب المقال، تغطيةَ "قتل أعداد من المدنيين الأبرياء وتهجير سكّان أحياء بأكملها وهدمها في غزّة، وتحويل الفلسطينيين المحاصرين لاجئين مُعدَمين يائسين". يذكر المقال أنها ليست المرّة الأولى التي تختار فيها الصحيفة أن تخرج من القطيع، إذ إنها رفضت استخدام تعبير "أضرار جانبية" في وصف ضحايا المعارك غير التقليدية التي يخوضها الجيش الإسرائيلي في غزّة ولبنان من المدنيين، وتمرّدت على هذا الاستخدام العسكري، الذي تحوّل تقليداً لدى الإعلام، وعمدت إلى أنسنة ضحايا الحرب عبر نشر أسمائهم وصورهم وقصص حيواتهم بشراً، لا مُجرَّد إحصاء لأضرار جانبية "لا بدّ منها". يقول المقال: "لن نتقيّد بشعار (اصمتوا بينما يطلقون النيران) الذي اعتمده أحد المعلّقين خلال اجتياح لبنان عام 1982، الذي يختصر التغطية الإعلامية الإسرائيلية في زمن الحرب حتى يومنا هذا". على عكس ممارسات الإعلام الإسرائيلي، اختارت الصحيفة ألا تلوك كلامها لتخفّف من حجم الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، بأن استخدمت التعابير التي تعمل البروباغندا الإسرائيلية على التخويف منها أو منعها بحجّة معاداة السامية. كتبت الصحيفة؛ عن عمليات تطهير عرقي في غزّة؛ آليات تعذيب واسعة النطاق في السجون الإسرائيلية بحقّ السجناء والموقوفين الفلسطينيين، بما في ذلك الاغتصاب؛ تمييز عنصري في حقّ الفلسطينيين والإسرائيليين العرب أمام القانون وفي المؤسّسات. وأخيراً، استخدام تعبير "بوغروم" في وصف اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفّة الغربية بتشجيع من الحكومة، وهو التعبير المستخدم في الإشارة إلى المذابح التي تعرّض لها اليهود في أوروبا في ظلّ الإمبراطورية الروسية في القرنَين التاسع عشر والعشرين.
في المقلب الآخر، غاب الإعلام اللبناني عن قسم كبير من الحدث، أو غيّبه، لصالح نقاشات في الاستديوهات غلب عليها ترداد خطاب خشبي عن حسابات الربح والخسارة من دون أن تمتّ للواقع على الأرض بالضرورة. أعداد كبيرة من المراسلين الشبّان نشروا في المناطق التي تتعرّض للقصف، غالبيتهم العظمى من النساء، من دون تدريب على تغطية النزاعات أو التعامل مع ميدان خطر، على خلاف مراسلي الإعلام الإقليمي والعالمي، الذين يتمتّعون بتدريب وحمايات متقدّمة، من دون أن يعني ذلك أنهم محميون بالفعل من الاستهداف الإسرائيلي. بالفعل، كانت منـظّمة هيومان رايتس ووتش (الحقوقية) قد أكّدت في تقريرها أخيراً أن قتل ثلاثة عاملين إعلاميين من قناتي الميادين والمنار في أكتوبر الماضي بقصف إسرائيلي هو فعل قتل متعمّد. في العام الماضي (2023)، قتل صحافيان من قناة الميادين، وقبلهما قتل المصوّر الصحافي في "رويترز" عصام العبد الله في قصف استهدف نقطة تجمّع صحافيين، وألحق إصابات خطرة بمراسلة وكالة الصحافة الفرنسية (بُتِرت ساقها)، وصحافيين آخرين من قناة الجزيرة. الاستهداف غير المسبوق للحصافيين الميدانيين أربك لا ريب إدارات التحرير، من دون أن يشكّل مبرّراً كافياً لغياب التدريب الصحافي لتغطية النزاعات للصحافيين والصحافيات المبتدئين الراغبين في اكتساب سمعة مراسلي الحروب.

سرت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام اللبنانية المعركة من أجل الحقيقة، بالتعمية على الهزيمة، والتفتت غير المسبوق للمجتمع

الأكثر أهمية في هذه التغطية غياب الرواية البديلة في الإعلام التقليدي على نسق شجاعة "هآرتس" الإسرائيلية. لا نعرف حتى الآن كيف تعايش آلاف النازحين في وضع غاب فيه الدعم الرسمي وتحوّل الخوف من الاستهداف الإسرائيلي حذراً، وأحياناً رفضاً من المجموعات الأخرى لهم. كيف تعايش هؤلاء مع مضيفيهم، وكيف استوعب هؤلاء المضيفون الاختلاف في المعاش اليومي إلى جانب الاستفزازات لبعض مؤيّدي حزب الله في الاستعراض اليومي في مناطق معارضة لهم؟
لم نعرف كثيراً عن مبادرات التضامن الجميلة العابرة للطوائف، التي أكّدت حيوية المجتمع اللبناني، الذي لا يزال قادراً على المبادرة رغم كلّ شيء. الأكثر أهميةً من ذلك كلّه، أننا لم نسمع أو نشاهد الرواية الحقيقية لما يدور في داخل البيئة الحاضنة لحزب الله، التي تعرّضت للاستهداف الإسرائيلي في شكل غير مسبوق، هل لا تزال هذه الرواية مختزلةً في سرديات النصر والشهادة السعيدة أم أن هنالك سرديات أخرى لا يقوى (أو لا يريد) الإعلام اللبناني نقلها؟
قد يكون واقع التفتت في الداخل اللبناني والخوف من حرب أهلية جديدة لجم لسان الإعلام، إلا أن غياب الرواية البديلة الناقدة بات عنواناً لغالبية ممارسات الإعلام اللبناني أخيراً، باسم الوطنية. هل حان وقت المراجعة؟

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.