الأجساد العارية في محرقة الأسد

21 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

مثال آلاف المتابعين من اللبنانيين والعرب، أمضيت الأيام الأخيرة بعد هروب بشار الأسد وأنا أتفرّج، مرّة بعد الأخرى، على صور المساجين المحرّرين يخرجون من زنازينهم وهم غير مصدّقين أنهم باتوا أحراراً، بعضهم لا يقوى حتى على مغادرة الزنزانة تعباً أو رعباً، وصور الجثث وآليات التعذيب التي لا يمكن تخيّلها حتى في أبشع إبداعات الخيال العلمي. مثل غيري، وعدتُ نفسي بأنني سأتوقف عن الإدمان على هذه المشاهدات، ثم لم أقوَ على ذلك. ثمّة جاذبية لهذه المواد، لعلها في التناقض بين الشعور بالنجاة غير المتوقعة أو الولادة الجديدة من سراديب الموت وهشاشة الأجساد التي هشّمتها آلات التعذيب وتعبيرات الألم الفظيع على ما تبقّى من وجوهها.

ليست الفظاعة التي شاهدناها غير معلومة أو مفاجئة، رغم أن منظمات دولية، مثل "العفو الدولية" (أمنستي) البريطانية، أعلنت أن ما شاهده فريقها في سجن صيدنايا لم يشبه أي شيء شاهده حتى الآن في دهاليز التعذيب في العالم. أجساد مقطّعة مهشّمة معصوبة الأعين قبل أن تُقلع أو تُعدم برصاصة في الرأس، لم ترَ النور منذ سنوات، اقتاتت من فتات غارق في بول الحراس الذين يمارسون التعذيب من أجل التسلية ثم يعودون إلى عائلاتهم آباء محبّين سعداء. زنازين مكتظّة بالنزلاء يتناوبون على الجلوس وينامون بعضهم فوق بعض في ما يشبه كوم الجثث. أدوات تعذيب لم يكن لأي فيلم رعب أن يتخيّلها، من الجلد إلى نزع الأظافر والتعذيب بالكهرباء والاغتصاب، إلى آلة كبس الجثث الرهيبة وغرف تذويب الجثث بالأسيد. لا نعترف بأننا كنا دوماً نتعايش مع كل هذا الرعب، رغم أننا كنا نعرف أنه موجود. قدّمت "وثائق قيصر" دليلاً على تعذيب واسع، عبر توثيق عشرات الآلاف من الصور لجثث ضحايا التعذيب سرّبها إلى الخارج المصوّران الرسّميان المنشقّان عن النظام "قيصر" و"سامي"، بعدما تمكّن قيصر من الفرار من سورية في عام 2014. باتت هذه الصور التي كان تهريبها مغامرةً شديدة الخطورة جزءاً من "لائحة الاتهام" ضد الأجهزة الأمنية التي كانت تابعة للأسد. في شريط جرى تداوله أخيراً، يقول سامي، واسمه الحقيقي أسامة عثمان، بعدما قرّر أخيراً الكشف عن هويّته الحقيقية، إنه غير قادر على وصف تأثير الصور التي كان يلتقطها يومياً لأعداد كبيرة من الضحايا، ومنها صور لجثث انتُزعت عيونها وآثار الدماء على وجوهها؛ ما يدلّ على أنّها كانت لا تزال على قيد الحياة عندما انتُزعت عيونها، وصور جثث نساء بينهنّ طفلة بعمر السابعة أو امرأة في السبعينات أُعدمتا بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية.

صور المختفين التي علّقها أهاليهم في الساحات العامة، في محاولة للتحرّي عن مصيرها، هي ما تبقّى من هذه الإنسانية

تمكّن، في أغسطس/ آب 2013، مصوّر النظام المعروف بالكود الأمني "قيصر" من تهريب 530275 صورة لضحايا تعذيب في سورية. معظم هؤلاء كانوا موقوفين في نقاط للاستخبارات في دمشق بين مايو/ أيار 2011 وأغسطس/ آب 2013، عندما هرب قيصر من سورية. وكانت منظمة "هيومان رايتس ووتش" الحقوقية قد أصدرت تقريراً تحقّق من وثائق قيصر عبر إجراء مقابلات مع 33 من أقارب وأصدقاء الضحايا و37 معتقلاً سابقاً شاهدوا أشخاصاً يموتون في المعتقلات وأربعة منشقّين عملوا في المعتقلات الحكومية أو المستشفيات العسكرية السورية حيث التُقطت هذه الصور. وتمكّنت المنظّمة، عبر استخدام صور الأقمار الصناعية وتقنيات تحديد الموقع الجغرافي، من إثبات موقع التقاط صور الضحايا. قدّمت هذه الصور أدلّة أكثر من كافية على وجود انتشار واسع النطاق للتعذيب، يتجاوز الحالات الفردية. مئات الشهادات خرجت بعد سقوط النظام في الأيام القليلة الماضية من ناجين وأهالي ضحايا عن تعذيب وحشيّ يفوق الوصف. ومنها انتقلنا أخيراً إلى معلومات بشأن مقابر جماعية منتشرة في مناطق مختلفة من البلاد. وقد كشف تقرير للقناة البريطانية الرابعة عن مقبرة جماعية لأكثر من 150 ألف ضحية في منطقة القطيفة، في ما اعتبره التقرير أكبر مقبرة جماعية في القرن الحادي والعشرين. ينقل التقرير عن أفراد تولّوا مهام نقل الجثث أو ردمها حديثهم عن أشكال مختلفة لعلامات التعذيب على الأجسام، أغلبها رصاصة في الرأس وتعصيب العيون. بحسب شهود رافقوا عمليات نقل هذه الجثث، كانت حافلات البرادات المثلجة تنقل الجثث طوال اليوم، في حين تطمرها فرق خاصة للتخفيف من رائحة الموت المنبعثة من الجثث المتفسّخة. يقول أحد العاملين في طمر هذه الجثث إنهم اضطروا يوماً إلى استدعاء خدمات الإطفاء، لتفكيك حوالي مائة جثة ملتصقة بعد تجمّدها في كتلة واحدة. يقول رئيس البلدية السابق إن الجميع كانوا على علم بعمليات دفن جثث الضحايا في المنطقة، إلا أن أحداً لم يكن يقوى على أن يتحدّث أو حتى أن ينظر إلى عمليات طمر الجثث.

لن تستعيد الجثث المشوّهة مقطعة الأطراف المجمّدة في عتمة الثلاجات أو المذوّبة في الأسيد إنسانيّتها التي فقدتها في التعذيب

لن تستعيد الجثث المشوّهة مقطعة الأطراف المجمّدة في عتمة الثلاجات أو المذوّبة في الأسيد إنسانيّتها التي فقدتها في التعذيب. صور المختفين التي علّقها أهاليهم في الساحات العامة، في محاولة للتحرّي عن مصيرها، هي ما تبقّى من هذه الإنسانية. ولعل المحاولة الأكثر تعبيراً لمنح هذه الأجسام القليل من الاعتبار حملات السخرية العابرة لصفحات "السوشيال ميديا" السورية، والتي تنشر وتعيد نشر صور الأجساد شبه العارية لعائلة الأسد، وقد عُثر عليها في ألبوم الصور العائلية في قصر الهارب وعائلته. في عريّها البشع والخالي من أي حرارة إنسانية، تبدو أجساد الديكتاتور وأفراد عائلته خالية من أي سطوة، هزيلة، بشعة، مثيرة للسخرية والنكات، عوضاً عن الرعب. من المضحك أن تبدأ عملية تحرير الناجين من الخوف وعملية إعادة بعض الإنسانية لمن قضوا في هذه الوحشية غير المتصوّرة.

فقدنا، في المقابر الجماعية السورية، بعض إنسانيتنا مع الضحايا. لا مجال للادّعاء أننا لم نكن نعرف، وأنه كان من الصعب تخيّل حجم التعذيب وأشكاله. العدالة للضحايا ولأجسادهم التي تحمّلت عذاباً لا يوصف هي العنوان الوحيد الذي يستحقّ الهمّ والاهتمام اليوم بعد سقوط الطاغية. ولعل في هذه العدالة استعادة لبعض من إنسانيتنا المفقودة أيضاً.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.