استهلاكٌ أم إهلاك

15 فبراير 2022

(جوزيبا إسكوبي)

+ الخط -

هل تدرك، أيها السيّد/ السيدة، أنك إذ ترمي ما تضعه على جسدك، رغم أنّه لا يعتق ولا يهترئ ويبقى قابلاً للارتداء، إنما ترتكب جُرماً فادحاً يرتكبه ملايينُ البشر سواك، من دون أن يدروا ما هم فاعلون؟
أجل، فنحن ما عدنا نرتدي اللباسَ لكي نستتر، ولا حتى لكي نتّقي البردَ أو لنحتمي من حروق الشمس. ونحن ما عدنا نختار ملابسَنا بناءً لضرورات عملنا، أو استجابةً لشروط العيش في مناخ معيّن، ولا حتى للمشاركة في مناسبةٍ ما، أو لرغبةٍ في التزيّن والظهور في مظهر جميل. نحن اليوم نشتري الثيابَ فقط لكي نستهلك، لكن من دون أن نستهلكَها فعلاً. وفي معنى الاستهلاك هلاكٌ وإهلاكٌ، أي استنفاد وإفناء وإنهاء، وهو ما لا ينطبق البتّة على تعاطينا مع ألبستنا التي يُفترض أن نتخلّى عنها بعد وقتٍ لا يعدو، حسب الأصول المتّبعة، عاماً أو عامين على الأكثر، إذ ينبغي "تجديد" اللباسَ ليتماشى مع .. مع شيءٍ تخترعه قوانينُ السّوق الحريصة على تقديمنا بأفضل ما يكون، وستر "عوراتنا الاجتماعية" التي تجعلنا مختلفين متخلّفين عن اللحاق بركاب ما تفرضه علينا الموضة وتُقرّه. هكذا، جعلنا نخترع للألبسة زمناً وحركةً وبُعداً آخر يُتيح أن نحدّد لها عُمراً لا يتصّل بعمرها الفعليّ، فقط لكي تمضي، أي تصبح من ماضٍ محتومٍ ينبغي أن يحيد مُفسحا للآتي. هذي هي مواسم الموضة، موسم ينطح موسماً، وموضة تطرد أخرى، فيما نتهافت قطعاناً تقبل أن تُجزّ شعورُها، تُقلّم أظافرُها، تلوّن شفاهُها، ويتم تغليفها بألوان وأقمشة وأشكال تتعاقب من دون مبرّر أو معنى.
لكن، أين تذهب عمليّاً كلُّ تلك الملابس التي نرميها وعددُها مخيفٌ ولا يُحصى؟ السؤال لا بدّ أن يُطرح، والإجابة التلقائية لا بد أن تكون: إنّها تباع بالأطنان للدول الفقيرة ليعيد ارتداءها من لا مقدرة لهم على شرائها، وفي هذا حلّ حاذقٌ وإعادة توزيع عادل و... لكنّ ما يحصل في الواقع، للأسف، خطير جداً، ذلك أنّ الدول المتقدّمة المنتجة بإفراط لتلك الألبسة تتخلّص منها بأن تُغرق الدولَ الفقيرة بها، مؤدّيةً إلى تلويث تلك البلدان، كما هي الحال مع غانا وتشيلي على سبيل المثال، إذ تنتهي ملابسُ تشكّل سُمّاً قاتلاً للكرة الأرضية برمّتها، وهي التي تحتاج سنواتٍ طوال كي تتحلّل، ناهيك عمّا تبثّه من مواد مضرّة، يابسة وفي المحيطات.
لنبدأ من البدء: هل يمكنك أن تتصوّر، أيها السيّد/ السيدة، أنك عندما تشتري قميصاً قطنياً (تي -شيرت) واحداً، تكون 2500 ليتر من الماء قد صُرفت لإنتاجه؟ وأنّ صناعة بنطلون جينز واحد تحتاج ما بين 7 آلاف و11 ألف ليتر ماء؟ وهل تعرف/ تعرفين أنّ معظم الأقمشة غير القطنية تُصنع من أليافٍ تأتي من النفط؟ أجل، تستهلك الموضة نحو 20% من المياه المستخدَمة عالمياً، وهي مسؤولة عن 10% من انبعاثات الغاز. أما نقل تلك الصناعات وتسفيرها عبر العالم، فيُنتج من انبعاثات الغاز ما قيمته 1.2 مليار سنوياً، أي ما يفوق كلّ الرحلات الجوية العالمية والبحرية معاً. وبما أنّ غالبية الأقمشة تُفبرَك من أليافٍ مصنّعة، فإنّ الجزيئات البلاستيكية التي تحتويها تنتهي عند غسل الملابس، في مياه الصرف التي تنتهي بدورها في المحيطات، وهذا ممّا تقتات به الأسماك وتنقله إلى أمعائنا. أما الأصباغ الكيميائية التي يجري رميها في المياه الحلوة، فهي مسؤولةٌ عن اعتلال معظم العاملين في هذا المجال، أضف إلى ذلك تسلّلها إلى المياه الجوفية.
لائحة الأضرار تطول، والموضة السريعة (فاست فاشن) كما يُطلق عليها تزداد ضراوةً، بحيث يُرمى ما معدّله 85% من الألبسة المنتَجة كلّ عام، فهل تتخيّل أيها السيّد/ السيّدة أنّك، بشرائك ما لا تحتاجُ إليه فعلاً، وهو ما يفعله معظمُنا، تُلوّث الكوكبَ، وتُغرق أهلَه تحت أطنانٍ من نفايات الألبسة، لا لشيء، إلا لأنّك تستجيبُ لنداء الإ(ست)هلاك؟

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"