"شو منلبس؟"... يحيى جابر وتراجيديا اللبنانيين
يعمل الكاتب والمخرج المسرحي (والشاعر) يحيى جابر بالمُتوفّر، والمُتوفّر هو ممثّلة فيها من الموهبة والحضور والطزاجة ما يُغني عن فرقة كاملة، وخشبة مسرح لا تحتاج فعلياً إلى "ديكور"، إذ تكفي عارضة حديدية مُعلّق في طرفيها رُوب داخلي زهري يرمز إلى الأمِّ، وسترة رجالية ترمز إلى الأب، وستارة شفّافة ملقاة عليها تُسدل وتُزاح بحسب الطلب، وقطعة قماش مُربّعة بيضاء يمكن أن تتحوّل غطاءَ رأس راهبة، صفحةَ جريدة، حجاباً، ورقةً بيضاء لكتابة رسالة... إلخ. جابر، وفي الأوضاع الفظيعة التي نعرف، التي تتبدّل يومياً في لبنان متجّهةً نحو مزيد من الانهيار والتأزّم والتهديد باندلاع حرب شاملة في المنطقة (والأحرى القول توسّعها وتكثيفها لأنّها مُشتعلة أصلاً في الجنوب اللبناني منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بإرادة حزب الله)، يكتفي بالقليل القليل ليصنع مسرحيات تجول في البلاد (وخارجها) ويستمرّ عرضُ بعضها (مثل "مجدّرة حمرا") خمس سنوات، وإنْ بشكل مُتقطّع. والغريب في الأمر، أو لنقل اللافت، أنّ عروضه تستهوي اللبنانيين من مختلف الفئات والطوائف والاتجاهات، وأنّ التذاكر تنفد بسرعة، والمشاهدون يشهدون ويُحيّون ويُحبّون ويُصفّقون، ذلك أنّ الرجل، بخلاف كُثر سواه من أهل المسرح، لا يُمارس فوقيّة على جمهوره، ولا يصنع فنّاً متكلّفاً، أو مُعقّدا أو مُرمّزاً، مُوجّهاً إلى نخبة مُثقّفة بعينها. على العكس من ذلك، فنّه يقف في المستوى نفسه حيث يقف المواطن، يُخاطبه من موقع الندّية، يُلمّح له، وأحياناً يصفعه بكلام مباشر لا يحتمل تأويلاً.
وقد تكون ميزة مسرحية "شو منلبس؟" أنّها تعتمد على ذاكرة طفلة؛ "يارا"، ابنة العائلة اليسارية من جنوب لبنان، التي تستعيد بلسانها مفارقات عيش من يُؤيّدون الفكر العلماني في بلدة محافظة هي النبطية، في بلاد تحيا في حربٍ وتحت تهديد السلاح، فالوالدة نجوى أمّ البنات، تريد أن تكون رفيقةً لا مُرافِقةً تمضي نهاراتها في قضاء الأعمال المنزلية، و"يارا" تريد أن تكون "إبراهيم"، الصبي الذي لم ترزق العائلة به، و"يوسف" الوالد، أستاذ المدرسة، ومسؤول الحزب الشيوعي في البلدة، يعيش دوماً تحت التهديد، وتعيش العائلة معه خوفاً دائماً من خطر اغتياله. فمن أسيرٍ مُحرَّر من معتقل أنصار الإسرائيلي، يصبح "يوسف" الشيوعي مُستهدَفاً من حزب الرايات الصفراء. رسائل تهديد، ثمّ تفجير سيارته، ثمّ محاصرته لمغادرته وعائلته ليلتحق بالرفاق في "الرميلة"... إلى أن تكتشف الأمّ أنّها تحتلّ منزل سيّدة أخرى مرَّت في الحيّ وأخبرتها أنّها تسكن بيتها، فتُقرّر العودة إلى منزلها في الجنوب.
هذا الخوف المستمرّ على الوالد، من الأمّ والابنة، يخلق الخيط الجامع بين ذكريات الصغيرة، ويُطلعنا على تجربة اليسار اللبناني المرّة هذه، وتحديداً الحزب الشيوعي، كيف طُرد أفرادُه وهُجِّروا واغتيل بعضهم لكي تستأثر المقاومة الإسلامية، الناشئة والمدعومة من إيران، وحدها بحقّ مواجهة إسرائيل. ولأنّ التي تروي وتُؤدّي وتستذكر طفلةٌ في الثانية عشرة من عمرها، جاء النصّ مُطابقاً لهمومها ولغتها وتساؤلاتها وخوفها، وعدم قدرتها على استيعاب تناقضات الأوضاع في لبنان (وإن لم يخلُ أحياناً من قفشات كان من الممكن الاستغناء عنها)، فهي تُعبّر عن رغبتها في أن تصبح راهبة مثل مسؤولة مدرستها، قبل أن تعي أنّها مسلمةٌ تلوم أهلها الذين يخالفون قواعد الدين، لكي تنتهي ممثّلة كما تنبّأوا لها، وكما هي أنجو ريحان، التي يستحيل أن يؤدّي سواها دورها، بل أدوار الشخصيات التي تستحضرها كلّها، بهذه الدرجة من التلقائية والإتقان في آن.
هل هذا مسرح تنبغي محاكمته أو محاسبته فنّيا فحسب؟... لا، هذا مسرحٌ حيٌّ إذا صحّ التعبير، لا يحمل خطاباً مُقفلاً بقدر ما يتساءل ويُسائِل ويسأل. وهذا مسرحٌ يحمل فعلياً هاجسَ البلاد، وحبّاً كبيراً للبنانيين، بقدر ما يُعرّيهم ويكشف عوراتهم، ويضع النقاط على مفارقاتهم السيئة والحسنة على السواء.