اتفاق الحبوب ولعبة بوتين
يُنظر إلى اتفاق إسطنبول الرباعي المعني بأزمة تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ أوديسا وغيرها في البحر الأسود إلى بوسفور إسطنبول ومنه إلى دول عديدة على أنه إنجازٌ سياسي بُنيَ على قاعدة رابح للجميع. فمن ناحية الشكل، لأوكرانيا وروسيا مصلحة في تحقيق إنعاش لاقتصادهما المنهك، بفعل استمرار حرب الاستنزاف التي دخلت في شهرها السادس، والولايات المتحدة تتعرّض لضغوط داخلية وخارجية، بسبب تحميلها مسؤولية حدوث أزمة غداء عالمية لأكثر من مليار إنسان، 37 مليوناً منهم تحت براثن الجوع الشديد وفق منظمة الغذاء العالمي. وتعاني كييف فعلاً من فائض تصدير حبوبها بأكثر من 20 مليون طن، ترغب في تصديره إلى دول العالم قبل دخول موسم الحصاد المقبل، في خطوةٍ تأمل منها جرعةً من صمودٍ مضاعف أمام آلة الحرب الروسية، في الوقت نفسه، ترغب بتحييد العمل العسكري على أهم ميناء لها في أوديسا، واتفاق إسطنبول المجدول زمنياً لـ 120 يوما، في حال نجاحه، قد يُتيح لها ذلك عبر فرض أمر واقع لوقف إطلاق نار، وتعطيل استراتيجية بوتين في استكمال السيطرة على المنافد البحرية على طول ساحل البحر الأسود، لا سيما بعد إطباقه على موانئ بحر "أزوف" ووصلها مع شبه جزيرة القرم.
لروسيا مصلحة في نزع مكاسب سياسية واقتصادية من وراء الاتفاق، فرفع الحظر عن منتجات الأغذية والأسمدة سُيساهم في جني أرباح هائلة، إلى جانب الاستفادة من رفع أسعار الطاقة عالمياً، وهو ما سيقود إلى الحفاظ على سير العلاقات مع حلفائها في دول العالم الثالث، خصوصاً دول القارة الأفريقية التي ترتبط معهم بعلاقات وشراكة في مجالات الأمن والعسكرة والاقتصاد والتجارة، لأجل ذلك جاءت جولة وزير الخارجية سيرغي لافروف الأخيرة إلى أفريقيا في إطار تعزيز العلاقات وإبداء رسائل طمأنة للحلفاء الذين احتفوا به بممارسة طقوس احتفالية.
رغم وجود دوافع ومكاسب مشتركة لكل الأطراف من اتفاق إسطنبول، إلّا أنّ عامل الثقة غير موجود
هذا من ناحية الشكل، ولكن من حيث المضمون، تطرح الاتفاقية عدة تساؤلات، أهمها عن توفر ضمانات ملزمة لتطبيق الاتفاق، وتطبيق آلياته، فماذا باستطاعة الضامن العمل في حال جرى خرق الاتفاق، لأسباب عديدة، منها حدوث تفجير متعّمد أو استهداف صاروخي، ونسبه إلى انفجار لغمٍ بحري، لسوء تقدير من فرق التنسيق المشتركة العاملة في مقر المراقبة إسطنبول، فرغم وجود دوافع ومكاسب مشتركة لكل الأطراف من الاتفاق، إلّا أنّ عامل الثقة غير موجود. فقد قصفت روسيا ميناء أوديسا بعد 24 ساعة من توقيع الاتفاق، وبرّرت ذلك بعملية فصل بين استهداف البنية العسكرية لأوكرانيا، وبين اتفاق تصدير الحبوب. على إثرها، اعتبرت كييف أنّ روسيا تقوم بممارسة "همجية" ووجهت إهانات لكل من تركيا والأمم المتحدة. إذاً كيف يُفهم هذا الفصل الروسي وهل هي من ألعاب بوتين كما يعمل مع دول أوروبا في سلاح الغاز؟
حقيقة الأمر، تنظر روسيا بعين الريبة إلى هذا الاتفاق، وهنا لا بد من التذكير بأنّ اتفاق إسطنبول هو اتفاقيتان منفصلتان، لكنهما متلازمتان، الأولى وقّعت بين أوكرانيا وتركيا والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيوغوتيريس، شملت عشرة بنود، مقابل توقيع روسيا مع تركيا والأمم المتحدة اتفاقية مفادها موافقة روسيا على خروج السفن الأوكرانية وتعهدها بعدم استهدافها، مقابل السماح لها بتصدير منتجاتها من غذاء وغيرها من الأسمدة، وأطلقت روسيا عدة تصريحات أكدت فيها أنّ اتفاقية تصدير الحبوب ستفشل في حال عدم رفع الحظر عن مواد روسيا الغذائية. معنى ذلك أنّ روسيا ستضع يدا على السياسة وأخرى على الزناد لترى مدى حجم الاستفادة الاقتصادية من هذا الاتفاق، مع التأكيد على فصلها كل ما يحدث عن أهداف عمليتها العسكرية ووقف النار، وتبدو هنا المعضلة الأبرز والثغرة الأهم في الاتفاق. ففي الوقت الذي تدأب كييف لتحييد سواحلها عن الأعمال العسكرية، والسعي مستقبلاً إلى استرداد ما سُلب منها في بحر أزوف، ترفض روسيا أن تتخلى عن حملتها العسكرية، أو حتى استخدام أسطولها المائي في البحر الأسود، إذ نشرت قبل يوم من توقيع الاتفاق قطعا بحرية في بحر أزوف محمّلة بصواريخ "كاليبر" عالية الدقة ومنظومات رادار حرارية في رسالة فُهم منها استمرار حملتها العسكرية لأبعد من شرق أوكرانيا، عزّزتها تصريحات صدرت عن الكرملين في توسيع نطاق الأهداف الروسية بعد دونباس، وصولاً لأوديسا.
نجاح اتفاق إسطنبول مرهون بالدرجة الأولى بنوايا بوتين، فهو لن يستغني عن هدف السيطرة وإطباق الحصار على سواحل البحر الأسود
بالنسبة إلى موسكو، كل شيء وارد ومطروح، ما دام الغزو في أوكرانيا مستمرّا، ولعبة كسر العظم مع الغرب آخذة في الاتساع وتشكيل تكتلات وأحلاف جديدة. وإن شكّل اتفاق إسطنبول بارقة أمل جديدة لإيجاد مخرج وبيئة دبلوماسية بين كييف وموسكو وربما، بجهد أنقرة، لعودة مستقبلية إلى طاولة المفاوضات سياسياً، لبحث وقف إطلاق نار، لكنه لن يكون كذلك في إطاره الأوسع بالمواجهة مع الغرب، فأميركا، وإن بدت، حتى الآن، أميل إلى رفع التكاليف على روسيا، إلّا أنها بدت مرغمة الآن على إيجاد حل لأزمة الغذاء والطاقة العالميتين، وهذه الأمور بنظر بوتين مكاسب جديدة تعكس مدى نجاحه في توظيف ورقة الغذاء سلاحا ضد الغرب، إلى جانب سلاح الغاز الآخذ بالمفعول العكسي على دول أوروبا بعد تقليل توريد خط نورد ستريم 1 إلى حدوده الدنيا 20%، بذرائع واهية وسهلة على بوتين، والذي يبدو أنه وجّه ضربة استباقية في شد حبل لعبة الغاز على رقبة أوروبا، ومنعها من تخزين احتياط لازم للشتاء المقبل، وهو الأمر الذي شكّل ناقوس خطر وألما مرتفعا على كبرى اقتصاديات العالم المتقدّم وصناعياتها، أجبرهم في خطوة أولى على تبنّي خطة طارئة حول ترشيد استهلاك الغاز المنزلي لـ 15%، ظناً منهم تحقيق خروج آمن من مأزق الشتاء.
وما بين سلاح الحبوب والغاز، يبقى نجاح اتفاق إسطنبول مرهونا بالدرجة الأولى بنوايا بوتين، فهو وإن رغب في تحقيق مكاسب اقتصادية آنية من تصدير الحبوب، لكنه في الوقت نفسه لن يستغني عن هدف السيطرة وإطباق الحصار على سواحل البحر الأسود، خصوصاً أوديسا، فمن شأن ذلك أن يفرض على أنقرة معادلة جديدة لأمن الموانئ والسواحل المتقابلة في البحر الأسود بشكل منعزل عن اتفاقية "مونترو"، وإن كان هذا الهدف صعباً وغير مرحب به في الغرب، ولا حتى من تركيا، لكنه مطروح ضمن طموحات بوتين في استعادة أمجاد الحقبة السوفييتية.
أعطى الاتفاق تركيا زخماً سياسياً ودبلوماسياً على الساحة الدولية، وأكّد أهمية دورها المحوري من حيث الموقع الجغرافي وسيطا بين الغرب والشرق
تبدو تركيا في هذا الصدد اللاعب الأبرز الآن على المستوى السياسي، وهي المعني الأول في تطبيق الاتفاق، عبر مركز المراقبة المشترك في إسطنبول، وصحيح أنه سيكون على عاتقها العبء الأكبر في تنفيذه، لكن بالنظر للمكاسب الاستراتيجية تكون محقة بهذا المجهود، أعطاها الاتفاق زخماً سياسياً ودبلوماسياً على الساحة الدولية، وأكّد أهمية دورها المحوري من حيث الموقع الجغرافي وسيطا بين الغرب والشرق، إقليمياً في عدة ملفات، وطرفا موثوقا به دولياً يمكن الاعتماد عليه في معالجة ملفات عالقة، ما يعني فرضها معادلة "الاحتياج الدائم" على الساحة الدولية. كذلك ستجني تركيا مكاسب على صعيد ثنائي في مسار تعزيز العلاقات مع كل الأطراف روسيا من جهة وانعكاس ذلك على ملفات مشتركة في سورية وليبيا وشرق المتوسط ودول البلقان، وأوروبا المنقسمة في الرأي بشأن أهمية الدور التركي، وصولاً إلى الولايات المتحدة المتأرجحة في تحديد مسار تعامل واضح معها.
يبقى الرهان الآن بشأن مدى فعالية اتفاق إسطنبول، وهل سيؤول وفق تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى البناء عليه لتوقيع اتفاقيات أخرى في مسار الحرب الروسية الأوكرانية، وإيجاد مخرج نهائي للحرب بناءً على المعادلة نفسها في اتفاق الحبوب "رابح رابح"؟ يبدو هذا الاحتمال صعب المنال في المسار العسكري، مع استمرار ألعاب بوتين الدولية التي تتعدّى النطاق الأوكراني، كما أنّ بوتين لن يرضى بمفاوضاتٍ مع كييف، لا يكون فيها الفائز الأول.