"الدولة" وغزوة المصارف

18 سبتمبر 2022
+ الخط -

ما تتعرّض له المصارف في لبنان اليوم ليس مستغرباً في بلد يعيش واحدةً من أسوأ الأزمات الاقتصادية تاريخياً. اقتحام المصارف من مودعين محتجزة أموالهم لمحاولة استرجاعها، أو استرجاع جزء منها، هو أقل ما يمكن توقّعه من مجموعات بشرية باتت تعيش تحت خط الفقر، وغير قادرةٍ على تأمين قوت يومها، فيما أموالها التي ظنّت أنها محفوظة في خزائن المصارف لـ"الأيام السوداء"، تتلاشى شيئاً فشيئاً من دون أي أملٍ في استرجاعها. هي حالة فريدة عالمياً، إذ لم يسبق أن عاش بلدٌ حالة انهيار اقتصادي كالتي يشهدها لبنان اليوم، خصوصاً في ما يتعلق بالسرقة العلنية لمئات ملايين الدولارات التي تعود إلى ملايين المودعين. حتى في الحالة اليونانية، حين عاش ذلك البلد قبل سنوات قليلة حالة إفلاسٍ معلنة، لم تصل الأمور إلى هذا الحد من "البلطجة" على أموال المواطنين، فالحد الأقصى من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المفلسة كان وضع سقف للسحوبات، من دون حرمان المواطنين كلّياً من أموالهم، كما هو الحال اليوم في لبنان، وتحديداً لودائع الدولار.

التأمل في الهجمات المتتالية حالياً على المصارف اللبنانية ليس هيّناً، وكذلك اتخاذ موقف واضح من الأمر. هل ما يقوم به هؤلاء هو سرقة أم استرداد حقوق بالقوة؟ لا يمكن الجزم بأي من الخيارين، خصوصاً أن التعامل القانوني مع عدد من الذين اقتحموا المصارف جاء متفهماً لطبيعة الفعل ودوافعه. والتوقيفات التي جرت للذين سلموا أنفسهم، أو اعتقلوا، بعد الحصول على جزء من أموالهم، لم تدم طويلاً، ولم ترفق بإجراءات قضائية بحق هؤلاء. فالنظرة القانونية إلى الأمر تأخذ بعين الاعتبار الممارسات غير المسبوقة التي تقوم بها المصارف اللبنانية، بدعم من المصرف المركزي والدولة اللبنانية، والتي أوصلت عدداً كبيراً من اللبنانيين إلى اليأس المطلق، والذي يدفعهم إلى الإقدام على خطوات كهذه لا يمكن التنبؤ بعواقبها.

بالنسبة إلى كثير من اللبنانيين، ما يقوم به مقتحمو المصارف هو "بطولة"، لكن بالنسبة إلى آخرين هو تجلٍّ للفوضى التي ينزلق لبنان إليها، إضافة إلى ما تحمله هذه العمليات من مخاطر على مودعين آخرين يترقبون الحصول على أموالهم بالتقسيط، وما قد تؤدي إليه من إغلاق المصارف، وهو ما بدأ يحصل فعلاً، وحرمان مئات الآلاف من الفتات الذي كانت "تمنّ" به المصارف عليهم، من أموالهم.

لكل من الرأيين مسوغاته المنطقية، لكن في المحصلة فإن حوادث كهذه تدل على الحال الدي وصلت إليه الدولة اللبنانية، أو ما تبقى منها. وتشير إلى استنكاف الدولة عن تحمل مسؤولياتها، خصوصاً من الجانب الأمني، بعدما تحول عناصر الأمن عن تأدية مهامهم الوظيفية إلى مهام أخرى هدفها تأمين حياتهم اليومية، بعدما انهارت القيمة الشرائية لرواتبهم في ظل الارتفاع الجنوني في سعر الدولار.

اعتكاف الدولة الأمني يأتي في سياق سلسلة طويلة من الانسحابات الرسمية من قطاعات حيوية كان من المفترض، في أي دولة طبيعية، أن تكون الحكومة هي المسؤولة عنها. بداية من الكهرباء التي تتولاها مافيات المولدات وتتحكم بأسعارها، مروراً بالمياه التي أصبح لها قطاع خاص موازٍ يؤمنها إلى المنازل، وصولاً اليوم إلى الوقود الذي سحبت الدولة يدها عن دعمه، وتركت أسعاره بيد أصحاب محطات التعبئة، ليتحمل المواطنون تبعاتها.

مؤشّرات غياب الدولة اللبنانية كثيرة، وغزوات المصارف ليست أولها، ولن تكون آخرها، ومع ذلك يحرص السياسيون اللبنانيون على الإيحاء بأن الأمور طبيعية، ويتحدثون عن استحقاقات وانتخابات ومشاريع، وآخرون يهددون ويتوعدون بحروب صغيرة وكبيرة، وكأنهم يعيشون انفصاماً عن واقع انهيار وإفلاس الدولة، وما يعكسه ذلك يومياً في الشارع.

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".