تحديات صعود اليسار
تنفّس الملايين في العالم الصعداء بعد الفوز المفاجئ الذي حققه اليسار في الانتخابات التشريعية الفرنسية، بعدما كانت استطلاعات الرأي تفيد بأن اليمين في طريقه إلى تولي الحكومة في فرنسا، وهو ما كان من شأنه أن يؤثر على مصير البلاد ومسارها مع الأفكار التي يحملها في ما يخصّ البقاء في الاتحاد الأوروبي واستقبال اللاجئين والمهاجرين، أو حتى في النظرة إلى العلاقة مع روسيا والتوجّه أكثر نحو بناء تحالف معه، وهو ما كانت زعيمة حزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، مارين لوبان، تتحدّث عنه في أكثر من مناسبة، وهي سبق أن خضعت للاستجواب أمام لجنة تحقيق برلمانية بشأن علاقتها مع روسيا وفلاديمير بوتين.
غير أن مشكلة هذا الفوز اليساري أنه غير متجذّر، وجاء نتيجة ردّة فعل على فوز اليمين في انتخابات البرلمان الأوروبي، فتحالف الجبهة الشعبية الجديدة هو خليط من الأحزاب غير المتجانسة التي اتّحدت على هدف واحد، منع اليمين المتطرّف من الوصول إلى الحكم، وهو جمع بين الاشتراكيين والشيوعيين وعلماء البيئة (حزب الخضر) وحزب فرنسا الأبية. ورغم أن هذا التحالف نجح في تحقيق الهدف الذي قام من أجله، إلا أن احتمالية استمراريته غير مضمونة، خصوصاً في ظل الاختلافات في النهج والأيديولوجيات بين أحزاب التحالف، وعدم الاتفاق على استراتيجية حكم، في حال تمكّن هذا التحالف من تأسيس ائتلافٍ قادر على تولي السلطة.
إلى الآن، لا يمكن النظر إلى تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" باعتباره كتلة صلبة، وهو ما يدركه أطرافه الذين يقفون أمام تحدّي تقديم مشروع سياسي موحّد يؤمن له الاستدامة، وألا يكون وليدة لحظة مرحلية لن تلبث أن تنتهي في أي استحقاقٍ انتخابيٍّ آخر. ليس الأمر سهلاً، خصوصاً في ظل الخلافات التي كانت قائمة سابقاً بين أحزاب هذا التحالف التي سبق أن تراشقت الانتقادات.
يأتي الخطر على "الجبهة الشعبية الجديدة" أيضاً من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وكتلته البرلمانية، التي جاءت ثانية في الانتخابات التشريعة بحصولها على 168 مقعداً مقابل 182 مقعداً لتحالف اليسار، ففي ظل عدم حصول أي حزب أو تحالف على الأغلبية المطلقة في البرلمان التي تخوّله تشكيل حكومة ونيل الثقة، فإن أنظار الرئيس الفرنسي ستتجه إلى كتلٍ في التحالف اليساري يمكن بناء ائتلاف معها، ولو بأغلبية بسيطة، للهروب من سيناريو البرلمان المعلق، أو الذهاب إلى انتخابات مبكّرة بعد عام. نجاح ماكرون في هذا التوجه يعني تفكيك هذا التحالف وعودة شبح حكم اليوم.
ورغم أن هذا السيناريو لا يزال مستبعداً، إلا أن هناك ضرورة قصوى اليوم لتكريس هذا التحالف اليساري الجديد جبهةً موحّدةً، خصوصاً أن خطر اليمين لم ينته بعد، بل على العكس، إذ إنه في تصاعد مستمر، فرغم حلول "التجمّع الوطني" ثالثاً في الانتخابات البرلمانية بحصوله على 143 مقعداً، إلا أنه أصبح أكبر الأحزاب الفرنسية من حيث عدد المقاعد، بالنظر إلى أن الفائزين بالمركزين الأول والثاني هما تحالفان لمجموعة أحزاب وتيارات. بالتالي، نصر اليسار اليوم غير مطلق، ولا يمكن الركون إليه من دون العمل على تحويله إلى تحالفٍ صلبٍ بمواجهة مارين لوبان وحلفائها، خصوصاً أن انتخابات جديدة قد تحصل خلال عام في حال الفشل في تشكيل ائتلاف حكومي، وهو الأمر المرجّح.
لكن بغض النظر عن هذه التحديات، هناك حقيقة ظهرت في هذه الانتخابات، أن الوعي من خطر اليمين المتطرّف على الجمهورية الفرنسية يكبر. فرغم حصول حزب مارين لوبان على نحو عشرة ملايين صوت، وهو رقم غير قليل، إلا أنه لا يزال غير كافٍ في وجه ملايين أخرى تواجه صعود اليمين المتطرّف.