كان يعتقد أنه وُلد من جديد عند عودته من القتال في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) التي شارك فيها جندياً متحمّساً في جيش بلاده وتقلّد وساماً رفيعاً، ليعود أوتّو ديكس منها ناقماً على تداعياتها التي سعت السلطة إلى إخفائها عبر أسطرة المقاتِل، فأتت جميعُ أعماله لتقاوم تلك الصورة.
لم تغادر الكوابيس الفنان الألماني (1891 - 1969) الذي كان يرى نفسه في منامه زاحفاً بين أنقاض المباني وأشلاء الجنود، في لحظة ساد فيها الفقر والإحساس الغامر باليأس، وهو ما عبّرت عنه أعمال العديد من الفنانين ضمن موجة عارمة من النقد الاجتماعي والسياسي الذي حاولت جمهورية فايمار، التي قامت بعد هزيمة ألمانيا، تغطيته بشعاراتها الوطنية.
"أوتو ديكس.. نقوش العشرينيات" عنوان معرض افتُتح في "غاليري ديلاكروا" بمدينة طنجة المغربية نهاية الشهر الماضي، ويتواصل حتى الثامن عشر من الشهر الجاري، ويضمّ رسومات وأعمال حفر للفنان الألماني ترصد مظاهر العجز والتشوّهات التي عمّت مجتمعه في تلك الفترة.
مشاهد المحاربين الذي أصيبوا بعاهات أو إعاقات دائمة وهم يتسوّلون في شوارع المدن الألمانية نتيجة حرمانهم العلاج أو المعاش التقاعدي، وأرامل الجنود اللواتي اضطررن إلى العمل في الحانات وفتيات ليل، شكّلت الصورة الحقيقية للحرب لدى الفنان ضمن نزعة اشتراكية فوضوية عبثية اجتاحت الأوساط الثقافية.
الصدمة النفسية التي عاشها ديكس، قادته إلى العنف والتحريض في أعمال الحفر التي قدّمها بين عامَي 1920 و1924، في رفض قاطع أن يُدفَع الشعب إلى أتون الحرب في سبيل مزيد من الهيمنة والنفوذ للطبقة التي تمسك بالحكم.
في الوقت نفسه، تعكس أعماله تحوّلاً كبيراً في مسار الفن، ليس في ألمانيا وحدها، بل في أوروبا أيضاً. فبعد أن قدّم رسوماته ضمن واقع تسجيلي خلال سنوات الحرب، توجّه لاحقاً إلى التفكير في غايات الفن نفسها من خلال ما سُمّي حينها "الموضوعيةَ الجديدة" التي كان هو أحد أبرز روّادها.
يحتوي المعرض على أعمال قدّمها ديكس في معرضه الذي أُقيم في مدينة مانهايم عام 1925، معظمها باللّونين الأسود والأبيض، ووصفها آنذاك مؤرخ الفن ج. هارتلوب بأنها "واقعية جديدة تحمل نكهة اشتراكية سعت إلى تصوير الحقائق الاجتماعية والسياسية"، لكن ديكس يصفها بصراحته المعهودة: "نريد أن نرى الأشياء عارية تماماً، واضحة، تقريباً من دون فن. لقد اخترعتُ موضوعية جديدة".
في "الحرب" (1924)، يوظّف ديكس الطبيعة التآكلية للأكواتينت في الحفر ليصوّر جثث الجنود مكوّماً بعضها فوق بعض وتتحلّل أنسجتها، ويقدّم في "لاعبو الورق" (1920) عدداً من المحاربين القدامى مشوّهين قلقين بهيئة نافرة ومزعجة، لكنهم قادرون على لعب الورق.
أما "شلل الحرب" (1920)، فتُصوّر عودة الجنود الألمان بعد الحرب يسيرون على كرسي العجلات ويستخدمون العكاكيز، وبعضهم قد ركّب أطرافاً مصنّعة، وهي الصورة التي سيُعيد تركيبها في أعمال عديدة، كذلك سينفّذ في العام نفسه "الشارع" التي تُظهر متسولاً يمرّ أمامَه أناس مشوّهون وبأشكال سوريالية.
لم تغب السخرية عن معظم تلك الأعمال التي صوّر فيها الواقع بمنتهى القسوة والفجاجة، أو بنزعة فضائحية تُحاكي عنف الغرائز وازدراء الجسد الذي أصبح مظهراً طاغياً في تلك الفترة التي انتشرت فيها الدعارة والملابس المبتذلة التي كانت ترتديها نساء فقدن من يعيل أسرهن، وكذلك التشرّد في شوارع تحتشد بالعاطلين من العمل والمتسكّعين.
نقمة قادت ديكس إلى نقد مركّب، بدءاً من سلوكيات البرجوازية التي ظلّت تلاحق الموضة وواجهات المحال التجارية وتتسابق على أماكن السهر، ومروراً بزيف العلاقات بين الرجل والمرأة، وليس انتهاءً بدعاية السلطة الرخيصة التي تغطّي الفساد وأزماتها السياسية باللعب على أوتار المشاعر الوطنية.
لم يتحمّل النازيون أعماله التي اتهموها بالتحريض والوقاحة وبأنها تسيء إلى اللياقة وآداب السلوك الخاصة بالشعب الألماني، ففُصل عام 1933 من "أكاديمية درسدن" حيث كان يعمل مدرّساً، ليضطر إلى العمل رسّام بورتريهات ليؤمّن لقمة عيشه، لتتحقّق نبوءته التي أطلقها حين كانا شاباً على خطوط الجبهة "سأكون مشهوراً أو سيئ السمعة"، فقد حقّق الاثنتَين معاً.