استمع إلى الملخص
- يشير أغويركات إلى أن الاهتمام الغربي بابن خلدون ساهم في المشروع الاستعماري لفهم المجتمعات المحتلة، داعياً لإعادة اكتشاف نصوصه باستخدام أدوات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي.
- يعترف أغويركات بأن بعض نظريات ابن خلدون قد لا تكون كافية لفهم تعقيدات المجتمعات الحديثة.
منذ اكتشف المستشرقون "مقدّمة ابن خلدون" قبل قرنَين من الزمن، لم تتوقّف محاولات استعادة هذا المُؤرّخ واقتفاء آثار مساراته الفكرية التي أدّت إلى قيام نظرية اجتماعية مكتملة الأركان. فقد أصبح البحث في "عبقرية" ابن خلدون وسَبْقِه العلمي موضوعاً قائماً بذاته. فهل يعكس هذا الاهتمام الإقرار بأن أحد فروع العلوم الإنسانية، علم الاجتماع، نشأ بالفعل عند العرب المسلمين في حقبة ليست هي من أزهى عصورهم؟
في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، صدر، عن "المركز الوطني للأبحاث العلمية" في باريس (CNRS)، كتاب الباحث مهدي أغويركات "ابن خلدون: مسارات مفكِّر مغربي" (Ibn Khaldûn: itinéraire d’un penseur maghrébin)، في محاولة لإعادة ترسُّم سيرة هذا المؤرّخ والكشف عن الدوافع التي جعلت الاستشراق لا يهتمّ به فحسب، بل يعترف له بالفضل رافعاً إيّاه إلى مصافّ روّاد علم الاجتماع الوضعي والفلسفة السياسية.
في "التوطئة"، يؤكّد المؤلّف أنّ دافع هذه المحاولة هو "إضفاء شيء من النظام على الدراسات الخلدونية التي تكاثرت إلى حدّ أنها شكّلت غابة كثيفة غطّت شجرة ابن خلدون الوارفة". فبعض تلك الدراسات حمّلت فكر ابن خلدون أكثر ممّا يحتمل حتى صارت تتّسع لكلّ ما يُبحث عنه، وبعضها أسقط عليه نظريات حديثة وادّعى "أبوّته" لمفاهيم سوسيولوجية راهنة.
وقد قسّم أغويركات بحثه هذا إلى خمسة عشر فصلاً: تناول في الأول منها "الآلام والمصاعب" التي عاشها المؤرّخ التونسي وأجداده ثم ما شهده هو نفسه في صباه وشبابه من "فِتَن ومِحَن"، مثل انتشار الطاعون وفشل الوحدة السياسية التي سعى إليها أبو الحسن المريني. فقد شكّلت هذه الأحداث لديه رؤية واقعية عن الحراك السياسي بين سلطات الحواضر في صراعها وتوتّرها مع قبائل البدو. وعالج في الفصول الوسطى رحلات ابن خلدون شرقاً وغرباً وما مارسه خلالها من الوظائف، فضلاً عن اعتزاله في قلعة بني سلامة لصياغة عصارة تجاربه وتأليف "المقدّمة".
يسعى إلى إضفاء شيء من النظام على الدراسات الخلدونية
وفي القسم الأخير، تطرّق الباحثُ إلى المسالك التي انتهجها الفكر الخلدوني حتى يصل إلى قارئه المعاصر. فكان وصوله إلى المشرق أولاً بفضل أعمال الأديب الأندلسي أحمد المقرّي (1578 - 1631)، صاحب "نفح الطيب" الذي ساهم بشكل حاسم في نقل أفكاره، ثم إلى الغرب الأوروبي عبر ليون الأفريقي، وما تبع ذلك من اكتشاف له في العصر الحديث، سواء في دوائر السياسة والاستشراق، أو في سياقات الاستعمار.
ففي هذه الدوائر، كان تلقّي الفكر الخلدوني إيجابياً، وُجدت فيه عناصر موضوعية تُساعد على فهم التاريخ واستكشاف الاتجاهات التي حكمته، ورأت فيه خطاباً في فلسفة الواقع، بعيداً عن التعليل الغيبي أو الماورائي. وقد تتبّع أغويركات كيفيات تلقي الفكر الخلدوني في الخطابات الراهنة، العربية والغربية، لسبر محدّدات هذه الراهنية ومظاهرها. على أنها، كما بيَّن، لا تعدو أن تكون راهنية إمّا تمجيدية تُستدعى من خلالها صورة هذا المفكّر لإعلان سبقه والاعتزاز بنبوغه، أو على العكس من ذلك، انتقادية تشجب عدم وضع الإله في مركز منظومته التحليلية التي ربطت المُسبَّبات بأسباب مادية واجتماعية وقبلية، وهو ما يروّج لدى أتباع فكر ابن تيميّة.
وهكذا، يحمل الاهتمام المستمرّ بشخصية ابن خلدون ونظرياته في طيّاته رغبة في فهم العوامل الموضوعية والتاريخية التي ساهمت في نشوء أفكاره كرحلاته ومهامه السياسية والبعثات القبلية التي شكّلت فكره السياسي. فقد كانت هذه التجارب الحياتية مصدر إلهام لصياغة نظرية في السياسة والعمران، استقاها من احتكاكه المباشر بدوائر السلطة في العديد من حواضر الخلافة الإسلامية وما دار فيها من صراعات وتوترات.
كما هدف الاهتمام الغربي بابن خلدون إلى تسهيل المشروع الاستعماري، وهذا ما أكدّه المؤرّخ التونسي أحمد عبد السلام منذ عقود، عبر التعرف إلى الآليات الحاكمة للمجتمعات التي كانت تحت الاحتلال، أو كانت في طريقها إليه، مثل تونس والمغرب. هذا الفهم العميق بحث عنه الاحتلال في عقل ابن المنطقة نفسها، المطلع على قوانين تطوّرها وصراعاتها وعوامل ازدهارها وانحدارها.
وفي هذا الصدد، يحسن بنا التذكير بكتاب "على آثار ابن خلدون" (2006) الذي وضعه كلٌّ من عالم الاجتماع التونسي عبد الوهاب بوحديبة والمؤرّخة منيرة شابوتو-رمادي، حول مسارات هذا المفكّر، حيث تتبّعاها يوماً بيوم في بحث أصيل، تعقّبا فيه كلّ المَواطن التي جال فيها فكر ابن خلدون وارتادها عقلُه. ونعتقد أن أغويركات أكمل هذا البحث بإنجاز "محاولة تأمّلية" تختلف عن صيغة الكتالوغ أو الكتاب المزوّد بعشرات الصور الحقيقية، وتركّز على مسارات التلقي وتفكيك مقولاته.
وأخيراً، قد يعود هذا الاهتمام الراهن إلى سعي الباحثين من أصول مغاربية أو أولئك الذين ينتمون إلى "الجنوب"، إلى إعادة الاعتبار للوجوه الثقافية الحرّة في التراث الإسلامي، ردّاً على تُهم التعصب والانغلاق، مما يمنحهم شعوراً بالاعتزاز والانتماء لهذه الثقافة. لكن لا ننسى أنّ هذه العودة تحصل من خلال ترجمات "المقدّمة" إلى اللغات الأوروبية، وآخرها ترجمة عبد السلام الشدادي إلى الفرنسية، التي صدرت في سلسلة فاخرة. وهي على صفائها ودقّتها لا تعدو أن تكون ترجمة، أي إضاعة لهذا القدر أو ذاك من الشحن التحليلية المنضوية تحت المفاهيم والمصطلحات الخلدونية.
تأمُّل في القراءة الغربية لفكره ومحاولة تفكيك مقولاتها
فلا نظنّ مثلاً أن عبارة "esprit du corps" التي اقتُرحت مقابلاً لمصطلح "العصبية" قادرة على الإيحاء بما فيه من طاقات الإحالة والترميز. تُقرأ تلك الترجمات لأخذ فكرة عامة عن مجتمعات المغرب في القرون الوسطى وعن أهم محرّكات تاريخها، لكن هذه الترجمات لا تمكّن من إدراك ما في المنظومة الخلدونية من عمق وأصالة ولا من رصد ما تعقده من علاقات معرفية مع خطابات علم الكلام والأصول والفقه والسياسات الشرعية ومبادئها التي ازدهرت في عصره وبعده، فضلاً عن رؤى المؤرّخين لحركية التاريخ وسيره. فتحليل هذا الفكر يتطلب فهماً معمّقاً يتجاوز الطرح الاستعماري، ليشمل النسيج العقدي، والفقهي، والصوفي الذي ورثه عن أسلافه، والذي سبق لمحمد عابد الجابري أن حلّله في كتابَيه: "العصبية والدولة" (1971) و"تحليل العقل السياسي" (1990).
ولذلك، لا يسع الباحث المعاصر إلّا أن يُقرّ بحدودٍ لنظريات ابن خلدون في فهم تعقيدات المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة، بعدما شهدته من تحوّلات عميقة، على أثر عَلمنَة حقول بشرية بأسرها كالقانون والاقتصاد، وتبدّل أنماطها الإنتاجية وأنساقها الاجتماعية. بل إن العودة إليه اليوم تبدو أقرب إلى نزعة ماضوية تحمل حنيناً عميقاً إلى الوجوه العقلانية في حضارة الإسلام أكثر مما هي سعي للعثور على مفاتيح فعلية لفهم حقائق المجتمعات الواقعية.
وتكاد تصبح هذه العودة هي الأُخرى عائقاً معرفيّاً، حسب تسمية غاستون باشلار، يمنع من إدراك الأبعاد الطارئة التي قلبت مجتمعات شمال أفريقيا رأساً على عقب. ولا شكّ في أنّ علماء اجتماع معاصرين من هذه البلدان، مثل عبد الوهاب بوحديبة، والطاهر لبيب والمنصف وناس وغيرهم قد أبلوا بلاءً حسناً في دراسة مجتمعاتهم بعيداً عن المفاتيح الخلدونية التي تقادَم بعضُها. ولذلك يدعو أغويركات إلى إنشاء فريق جديد من الباحثين لفهم هذا التلقّي المُعَوْلم عبر العودة إلى النص الأصلي وإعادة اكتشافه، حتى ولو تطلّب ذلك الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. فهل يضيء هذا الأخير الزوايا الغامضة في هذا الفكر المتشعّب؟
بطاقة
مهدي أغويركات باحث مغربي فرنسي، يعمل أستاذاً في "جامعة بوردو- مونتين". من مؤلّفاته: "النظام الموحدي 1120 - 1269: قراءة أنثروبولوجية جديدة" (2020)، و"الإمبراطوريات البربرية، بناء وتفكيك الموضوع التاريخي: الإسلام والفكر والثقافة والمجتمع" (2024)، كما شارك في تأليف كتابَي "تاريخ الدول الإسلامية: من عام 1453 إلى اليوم" (2018)، و"تاريخ المغرب العربي في العصور الوسطى" (2021).
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس