The Caretaker... مكان في العالم يتلاشى بعيداً

20 سبتمبر 2021
المشروع مؤلّف من 6 ألبومات (ماريانو ريجيدور/Getty)
+ الخط -

ليس سهلا، أن تُعبّر الموسيقى عن حالة الوهن العقلي، أو حتى أن تصوّر تداعيات التراجع التدريجي للذاكرة، عند الأفراد الذين يصابون بالأمراض المصنّفة تحت خانة "الخرف". كذلك ليس سهلاً أن ينجز موسيقي مشروعاً ضخماً، يستغرق سنوات. لكن هذا ما أنجزه بالفعل المؤلف الموسيقي البريطاني ليلاند جيمس كيربي، من خلال عمله الضخم المعنون بـEverywhere at The End of Time، وهو مشروع موسيقي مُطوّل يتكوّن من ستة ألبومات مُرتّبة، مدتها الكلية 6 ساعات ونصف الساعة. ويصف كل منها مرحلة من مراحل أمراض الوهن العقلي Dementia، وتحديدا الألزهايمر، وعجز المريض عن استدعاء الذكريات، بل وتدهور قدرته على القيام بأبسط المهام الحياتية بشكل تدريجي. ونَسب كيربي الألبومَ إلى شخصية خيالية سماها The Caretaker (الذي يقوم بالرعاية)، تمر بتجربة مع الذاكرة وتدهورها.

بدأ كيربي مشروعه عام 2016 واستغرق إكماله ثلاث سنوات، لكنه لقي رواجاً في أواخر العام الماضي، حين استخدم رواد منصات التواصل أغانٍي منه على سبيل التحديات والكوميديا السوداء والسخرية من بعض هفوات النسيان البسيطة التي تبث قلقا في النفس من فقدان الذاكرة ومرض الألزهايمر.


بداية المعاناة

تصف المرحلة الأولى من الألبوم مرحلة بوادر فقدان الذاكرة، وتشبه هذه المرحلة حلم يقظة جميلا، يُذَكِّر بمجد الأيام الخوالي، و"آخر الأيام الطيبة" على حد وصف المؤلف، ويبدأ الألبوم بأكثر الأغاني شهرة في المشروع، وهي "إنها مجرد ذاكرة محترقة" It’s Just a Burning Memory، وهي الأغنية التي استخدمتها مواقع التواصل الاجتماعي للإشارة إلى المشروع بأكمله.

الأغنية في واقع الأمر نسخة معدلة من أغنية قاعات الرقص من عقد الثلاثينات Heartaches، وعند المقارنة يتضح أن أغنية المشروع أبطأ، وأنها تضمّ تشويشا بسيطاً قد يظنّ المستمع أنه خطأ في التسجيل، لكنه مرتبط بشكل مباشر بفقدانا لذاكرة، حيث يصوّر كيربي موسيقياً كيف يتذكر مريض الألزهايمر الماضي.

والموسيقى في هذه المرحلة، تحاول التعبير عن آخر فترات تجلي الذكريات واضحة، وبداية رحلة طويلة ومخيفة مع فقدان الذاكرة، وتستمر أغاني هذه المرحلة بنمط مشابه مع عناوين شخصية وعاطفية، خاصة أن أغلب المرضى في هذا المرحلة لا يدركون حجم ما هم مقبلون عليه من معاناة.

وتمثل المرحلة الثانية، بداية إدراك أن شيئاً ما ليس على ما يرام، مع حالة من الإنكار، إذ يبذل المريض جهدا أكبر في استرجاع الذكريات الباهتة، ومع تسلل الخوف والاضطراب إلى نفسه، يصبح المزاج العام لهذه المرحلة أكثر اكتئاباً.. والموسيقى في هذه المرحلة مسموعة، لكنها لم تعد سعيدة، فتتجلى الضوضاء بشكل أكثر قوة كما هي الحال مع الخوف والاضطراب في الذات... أسماء الأغاني تصبح أكثر كآبة، وتحمل قدراً من الانهزامية. نعم، لم يتمكن الألزهايمر تماماً من المريض، لكنه يتضح بشكل أكبر كاشفاً أن المريض مقبل على مستقبل مضطرب، وأن إنكاره ورفضه التأقلم مع هذا الواقع ينعكس على بعض الأغاني الأكثر عاطفية في المشروع.

تبدأ هذه المرحلة بأغنية بعنوان "معركة خاسرة تحتدم"، ولأول مرة يمكن سماع آثار التدهور العقلي بشكل واضح: فقرة مكررة من التشوش وسط موسيقى حالمة لكن غير مريحة، ربما يحاول المستمع أن يعزل "الكلارينت" عن باقي الضوضاء، تماما كما يحاول مريض الألزهايمر التذكّر. ثم تأتي الأغنية الثانية، في هذه المرحلة لتكون من أكثر الأغاني قوة في المشروع، بعنوان "ضائع في الزمن"، تحمل الأغنية أكثر الألحان إنذارية في هذه المرحلة، وكأن الجحيم على الأعتاب. 


لحظات التذكر الأخيرة

وعندما يصل المريض إلى آخر اللحظات قبل أن يغرق في التخبط والارتباك، يصبح الدفقُ الموسيقي أكثر تشوشاً وتعقيداً. كلما تقدمنا، تصبح الذكريات مضطربة، معزولة وبعيدة. آخر لحظات الإدراك قبل أن ندخل مرحلة ما بعد الوعي. والأغنية الأولى من هذه المرحلة يهيمن عليها "النشاز القوي"، وصدى الموسيقى التي تناسب مشهداً من فيلم رعب في بيت مسكون. تهدأ الموسيقى تارة وتعلو تارة أخرى، أيضاً تشهد هذه المرحلة بداية اللحظات الصامتة في المشروع، وتصور آخر لحظات الإدراك والوعي الكامل لدى المصاب. المزاج العام للأغاني ليس حزيناً ولا مبتهجاً، ولكنه أقرب إلى الحيرة والضبابية. هنا يصل المستمع إلى صمت موسيقي بشكل مفاجئ ومن دون أي مقدمات.

كلما حاول مريض الألزهايمر أن يشغل باله بأشياء تلهيه عما هو فيه واجه صعوبة بالغة، بل إن الانشغال يعني شعوراً بالحيرة يلازمه ويلاحقه: عدم قدرته على تذكر اسم اليوم أو التعرف على المكان الموجود فيه، تجعل من حياته جحيماً، وغالباً ما يؤدي الإنكار إلى انعزال اجتماعي واكتئاب، وهذه العزلة تعبر عنها بعض أغنيات المرحلة، ومن أبرزها "سمو فوق الضياع – Sublime Beyond Loss"، وهي مبنية على عينة من قطعة جاز موسيقية تسمى Stardust  لتشارلي سبيفاك. في هذه الأغنية تأتي الموسيقى مخرّبة، وتُعزف معكوسة ومقطعة، وتتقاطع مع نفسها من مواضع مختلفة، حيث يصر كيربي أن يلمس المستمع تجسيداً موسيقياً لذاكرة المريض في هذا الطور من أطوار المرض.

في الأغنية "F2 ــ انجراف في غير وقته"، يمكننا سماع نفس العينة من المرحلة السابقة التي كانت في "ضائع في الزمن"، ولكنها أبطأ وأبعد كثيراً، كأن الموسيقى تلعب في نهاية ردهة طويلة لا نهاية لها، وكذا مع الأغنية F4 التي تتشارك مع أول أغنية في العينة الأصلية مع فارق الشعور والتأثير، فعند الاستماع إلى المشروع كله، يكون وقع الأغاني المكررة شديدا، لأن المقارنة تنعقد في نفس صاحب المعاناة بين ما يسمع في هذه المرحلة وما سمع فيما سبق من مراحل، فيدرك أن الأمور قد آلت للأسوأ، وأنها ماضية إلى مآلات بغيضة.

ويصور الألبوم في مرحلته الرابعة حالة ما بعد الوعي، وهي المرحلة التي يكون فيها السكون والتذكر منبعين للاضطراب والذعر. هي بداية اختلاط الذكريات نتيجة تشابك الترسبات الدماغية، والعمليات التكرارية والتمزق الوجداني.

لكل ألبوم في هذا المشروع غلاف يتمثل في لوحة فنية رسمها صديق المؤلف القديم إيفان سيل، وفي هذه المرحلة (الرابعة) رُسم الغلاف داخل إطار لما يبدو أنه وجه إنسان، من دون أن تظهر لهذا الإنسان ملامح، في تعبير بليغ عن مستوى المعاناة، فبمجرد أن ننظر إلى الغلاف ندرك أن الشخص المصاب قد بدأ يفقد هويته، فالمرحلة الرابعة هي أول أطوار ما بعد الوعي، حيث يشتمل هذا الجزء على أربع أغان لكل مرحلة، مدة كل منها حوالي 20 دقيقة من دون أي تركيب أو هيكل موسيقي، وفي مطلع هذه المرحلة تسمع في الأغنية الأولى ضوضاء أشبه بتلك التي تصدر من مذياع معطوب يبث تسجيلا قديما، ومع الاستمرار، تتصاعد أصوات مختلفة تتقاطع وتخفت ليعلو غيرها، وذلك حتى انتهاء الأغنية.

في مرحلتي ما بعد الوعي الرابعة والخامسة تتحول أسماء الأغاني إلى ما يشبه وصفا طبيا مجردا من العاطفة لحالة المريض، فالفقرات الأربع تسمى "ارتباك ما بعد الوعي" باستثناء قطعة أكثر هدوءًا من باقي القطع من نفس المرحلة، وتحمل اسما يوحي بسكينة مؤقتة، ففي هذه المرحلة نجد الأغنية الثالثة تسمى " I1 – فترة نعيم مؤقتة"، والنعيم في هذا السياق بعض من الهارموني الذي يلاحظ بالكاد وسط الضوضاء والتشوش.

تحاكي هذه الفقرة حالة حقيقية تسمى Sundown Syndrome، وهي حالة عامة من التقلبات المزاجية السريعة، بالإضافة إلى مشاعر من الذعر والأرق والغضب والتهيؤات والانفعالات العاطفية المبالغة وغير المبررة، قبل أن تبدأ المرحلة الخامسة متمثلة بتشابكات أكثر تعقيداً، حيث التكرار يؤدي إلى لحظات أكثر سكوناً، والغريب يبدو مألوفا،ً والوقت يقودنا إلى العزلة.

في هذه المرحلة من الألزهايمر لا يدرك المصاب الوقت ولا التاريخ، ولا يعرف أين هو ولا من معه، لا يذكر اسم أقرب الناس إليه ولا أحداثاً جوهرية في حياته، يحتاج إلى عناية على مدار الساعة لأداء أبسط الأمور. يفقد المريض قدرته على الحديث أو الاستماع لما حوله، وكذلك قدرته على الحركة والسير، ويصبح التعبير عما يعانيه مستحيلا. وهنا، تبدأ الأغاني صاخبة مليئة بالضوضاء والتشوش، ثم تؤول ببطء شديد إلى الهدوء أو بالأحرى إلى الفراغ. وفي هذه المرحلة تطغى مشاعر الخوف من آثار المرض، ويتعاظم التعاطف مع المريض.

 ورغم تواصل الضوضاء عبثيا  وبلا معنى، يمكن للمستمع المنتبه أن يلتقط في هذه المرحلة وبعد وقت طويل من الاضطراب السمعي 30 ثانية من الموسيقي باهتة المعالم، الأمر الذي يبث الفزع في النفس أكثر من الفراغ. ماذا لو كان المصاب بيننا فعلاً لكنه فقد القدرة على التعبير؟ ماذا لو لم ينس ولكنه انتقل إلى سجن عقلي لا يدركه إلا هو؟ لكن الحقيقة التي لا مفر فيها أن موته بهذا الشكل قادم لا محالة، وأن زحف ضياع الذاكرة لا يرحم.

تتحول أسماء الفقرات في النهاية من الوصف الطبي إلى عناوين مستسلمة وانهزامية مرة أخرى، مثل: "ارتباك غليظ لدرجة أنك تنسى النسيان" و"نعيم قاس خلف هذه الهزيمة الجوفاء"، فالمرحلة السادسة هي ما قبل الموت، والموسيقى تصبح أكثر هدوءا كما لو كانت ترتقب موت المريض، وبها بعض مواطن الصمت، وبالبعض الآخر ضوضاء خافتة، هي أشبه بجنازة موسيقية.. جنازة صاحب المعاناة، يسمعها قبل وفاته.

وجاء غلاف المرحلة السادسة معبراً عما قد يراه شخص قريب من المريض، فاللوحة المنصوبة والإطار الموضوع تمثلان جسد المريض ووجوده، ولكن هذا الإطار الفارغ من المحتوى يمثل هذا العقل الأجوف الخالي من الحياة.

وكانت آخر أغنيات الألبوم "مكان في العالم يتلاشى بعيداً" شاهدة على عودة بعض الألحان الواضحة، وتبث السكينة في النفس، إلا أنها تمثل أكثر اللحظات اكتئابا في المشروع، إنها تمثل موت المريض، وانتقاله إلى حال لا تسوء الأمور فيه عما هي عليه.

من الضروري إلى أبعد الحدود الاستماع لهذا المشروع بشكل مرتب، فكل لحظة تشهد تطورا نحو مصير محتوم، وهذه اللحظات الأخيرة في نهاية المشروع هي تجسيد آخر لما يسمى بـ"الوضوح النهائي Terminal Lucidity" وهي حالة من الصفاء الذهني والتذكر الطبيعي يصاب بها بعض مرضى الوهن العقلي في الأيام أو حتى الساعات الأخيرة من حياتهم.

المساهمون