استمع إلى الملخص
- **تجربة سينمائية طليعية**: فيلم "مرمر مكاني" هو نتاج تعاون بين ستة مخرجين لبنانيين، ويجمع خمسة أفلام متوسطة الطول في شريط سينمائي واحد مدته 160 دقيقة، معتمدًا على أدوات تقنية بسيطة وموازنة محدودة.
- **قصص واقعية ومؤثرة**: تتناول الأفلام الخمسة قصصًا واقعية لشخصيات تعاني من ضيق نفسي، بطالة، ومضايقات، مما يعكس واقع الشباب اللبناني وتحدياتهم اليومية.
شباب لبنانيّون في صدامٍ مع المكان (البيت العائلي. المدينة. الوطن)، وإزاء واقع يولّد اختناقاً وكآبةً وتيهاً وإحساساً عارماً بالفراغ المهيمن. الزمان مبعث المرارة في الأغنية المعروفة، وفي الفيلم فمبعثها المكان الذي يضيق بشابات وشبان بين 30 و40 عاماً، أضاعوا بوصلة الحياة والراهن والغد، وتشوّشت كينونتهم في المجتمع المتآكل والمكان المتهالك، المنحدِر قيماً وثقافةً وعلاقات.
خمسة بورتريهات، في "مرمر مكاني"، تختزل أحوال جيل بكامله، فَقَد أحلامه وطموحاته في خراب المكان وفراغه، بل تهديده وعدوانيته. ثيمات مماثلة منتظرة سينمائيّاً: أنْ تقتحم الكاميرا عالم الشباب، وتسجّل همومهم وهواجسهم. ففي عالم كهذا، لا تنضب المواضيع، بل هناك كثير ليقال روائياً وتسجيليّاً، بالأدوات والإمكانات البسيطة، والمضمون يتقدّم دائماً على الشكل سينمائياً. لذا، وُجدت، تاريخيّاً، السينما المستقلّة وسينما "أندرغراوند" وسواهما من الأنواع المتمرّدة على معوقات الإنتاج، وغير الخاضعة لشروطه.
هذا أقدم عليه سينمائيون لبنانيون: ثلاث مخرجات، غنى عبّود وألين عويس وماري ـ روز أُسطا، وثلاثة مخرجين، نعيم الحاج وسليم مراد وجهاد سعادة، أنجزوا خمسة أفلام متوسّطة الطول، جُمعت في شريط سينمائي واحد، مدّته 160 دقيقة، على نحو متقاطع ينتمي إلى بنية "السينما الكورس"، ويختلف عن سينما "الاسكتشات" التي درجت عليها السينما الإيطالية بين خمسينيات القرن الـ20 وسبعينياته، وشارك فيها مخرجون مثل فلّيني وفيسكونتي ومونيتشيلي وسكولا وآخرون، وكانت تمرّ فيها الأفلام تباعاً بلا تقاطعات في ما بينها. النموذج الأقرب في هذه التجربة السينمائية (لنقل إنّها ورشة) اللبنانية، Short Cuts، للأميركي روبرت ألتمان (1993)، مع فرق أنّ مخرجاً واحداً يروي قصصاً متقاطعة، لا يرتبط بعضها ببعض بالضرورة، بينما هنا ستة مخرجين يروون خمس قصص، أو يرسمون خمسة بورتريهات متداخلة وغير مرتبطة (فيلمٌ منها أخرجه مراد وعويس).
ربما يكون هذا البناء السرديّ غير مألوف في السينما اللبنانية، وحتى العربية. لذا، يمكن اعتباره تجربة طليعيّة، تؤسّس لتجارب لاحقة مماثلة، مع أنّ هناك تجربة سابقة أُنجزت في إطار جامعيّ، رعايةً وتمويلاً وتوفيراً للمعدّات والموازنة اللازمة: "وينن" (2013). أبو هذا المشروع، وعنوانه بالإنكليزية Home Bitter Home، اللبناني جورج هاشم، مخرج الفيلمين المميّزين "رصاصة طايشة" (2010) و "نار من نار" (2016)، الذي تنكّب مشاق الورشة الشبابية، المنطلقة بحماسة، وبلا تمويل، بل بأدنى موازنة، وبأدوات تقنية بسيطة وغير مكلفة (ممتازة النتيجة) على قاعدة "العونة" اللبنانية.
تعاون الجميع لإنجاز المشروع بنجاح، كتابة وتصويراً وتوليفاً وعمليات "بوست بروداكشن". العرض الأول مفاجئ: شريط سينمائيّ كامل المواصفات، وآسر شكلاً ومضموناً وأفكاراً وكتابةً وأداءً وإخراجاً وتصويراً وتوليفاً (فاينل كات لهاشم، مُوجّهاً ومشرفاً عاماً على سائر التفاصيل).
"سارة" (تمثيل سارة فخري. الأسماء الأولى للممثلات والممثلين احتُفِظ بها للأدوار)، كتابة وإخراج وتوليف غنى عبود، تصوير جان حاتم، تمثيل المصوّر الفوتوغرافي المخضرم فؤاد الخوري وألكسندر هبر وميشلين كرم (أمّ سارة). سارة في منتصف الثلاثين، محامية وراقصة. فَقَدت والدها صغيرة، وتبحث عن شريط تلفزيوني قديم عُرض على شاشة "تلفزيون لبنان"، يظهر فيه راقصاً. تنتمي إلى عائلة برجوازية ميسورة، لكنّها تختبر ضيقاً نفسيّاً له علاقة بتعثّر تحقيق أحلامها راقصة محترفة. ترغب في دراسة الرقص الحديث في ألمانيا، وبانعدام التواصل مع أمّها ذات الهموم التقليدية (زواج ابنتها أسوة بشقيقتيها، وضرورة الإنجاب). لا تلقى راحتها في أيّ مكان تستقرّ فيه، في المدينة أو الجبل، وفي الطبيعة الهادئة والجميلة. نتابعها في لقطات مختزلة زمنياً، مترحّلة مع حقيبتيها بين مبيت وآخر. تركض كلّ مرة نحو النافذة لتفتحها طلباً لهواء تتنفّسه، وهي تختنق من الداخل. لا تبدو على بعض انشراح إلّا في مشاهد مدرسة الرقص. حتى في سكون الطبيعة، لا تجد ملاذاً مريحاً. إنّه شعور الضيق والاختناق يُلمَح في هذا البورتريه، المنساب في الزمان والمكان السينمائيّين بكامل اختزالاتهما وإيقاعاتهما البطيئة والمتمهّلة والضرورية.
"هادي" (تمثيل هادي دعيبس ونديم دعيبس وروى فيليبس وسماح بو المنى وضنا مخايل وهاشم عدنان)، كتبه وأخرجه نعيم الحاج، وصوّرته إلسي حجار، وولّفه نعيم الحاج مع هاشم. يوميّات هادي، الموسيقيّ ومهندس الصوت، المُصمّم بعناد وأمل على بناء استديو تسجيل فني وموسيقي خاص به، بدعم من أبيه وشقيقيه. لكنّ واقع البلد لا يدعمه، إذْ يجد نفسه غارقاً، على نحو يتأرجح بين الكوميديا السوداء والسينما الغرائبية، في إتمام تسجيلات تجارية (خطب سياسية واجتماعية لمنظّمات غير حكومية)، لينجح عمله مادياً، ويردَّ كلفة بناء الاستديو. وحدها الموسيقى شغفه وحلمه، شاكياً خيبته لصديقته الأجنبية (روى فيليبس، الأضعف أداءً) قبل بحثه العبثيّ غير المجدي عن الصوت الغامض الذي يطلع له في تسجيلاته التجارية. كأنّ المكان مسكون، أو يمكن تأويل المصدر بكونه في رأسه الخائب. يمكن تصنيف هذا البورتريه في خانة الواقعية الفانتاستيكيّة، التي لا تخلو من لحظاتٍ ضاحكة مريرة.
"أدهم" لسليم مراد وألين عويس كتابة وإخراجاً، تصوير جهاد سعادة، تمثيل أدهم الدمشقي مع كلبه غودو، وتينا نقاش وتريزا نفاع ويارا بو حيدر وفادي أبي سمرا، توليف ساندرا فتّي. كلّ شيء في هذا الفيلم الواقعي، الرقيق والمؤثّر، يشبه حقيقة الفنان المتعدّد والمنشّط الثقافي (في منزله الشخصي، الذي يعيش فيه وحيداً مع كلبه الكبير واللطيف)، سوى أنّ الابتكار في المعالجة اقتضى اختراع واقعة اختفاء الكلب عقب مضايقات جيران عدوانيين ومزعجين، يخطّطون لترحيله من المنزل، وإقناع المالكة العجوز بذلك، لكنّها ترفض لأنّها تكنّ مودّة ووفاء له، وهو الوحيد الذي يهتمّ بها. واقعية تشبه الواقعية الجديدة الإيطالية، ويؤكّد ذلك مشهدٌ تحيّة لـ"أمبرتو دي" لفيتوريو دي سيكا، يبحث فيه أدهم عن كلبه الضائع بين كلابٍ شاردة، جُمعت في قفص عربة من الشارع (تحية موفّقة لفيلمٍ مؤثّر وعزيز على قلب الناقد أندريه بازان، وعليّ أنا، إذْ عرضته مراراً لطلابي في الجامعة، وبينهم المخرجات الثلاث في هذا المشروع الطموح). في هذا البورتريه، تتواضع الكاميرا، وتزور حيّاً شعبيّاً في بيروت، بل منطقة شعبية تظهر في لقطة عامة، تحاول سينمانا غالباً إخفاءها، أو تجميل واقعها، أو تلافيها تماماً. ينزل "أدهم" إلى "قاع المدينة". يُظهرها على حقيقتها الطاغية، بعيداً قدر الإمكان عن أحيائها الفخمة، وشوارعها النظيفة، ووسطها الشبحيّ. تنويهٌ بأداء أدهم الدمشقي، ناذراً حياته للفن، ومُخصّصاً فسحة عيشه الضيقة والمتواضعة لخدمة العمل الثقافي.
"دانا" تأليف جهاد سعادة ومارك سلامة، إخراج وتصوير سعادة، توليف هاشم وسعادة، تمثيل دانا ضيا وفاديا التنير ودانا قرضاب وشاكر بو سليمان ووائل سعادة. دانا (ضيا) درست التمثيل، لكنّها ككثيرين من أبناء جيلها لا تحظى بفرص في مجال اختصاصها. تعمل مع منظمة غير حكومية، لتؤمّن مورداً لعيشها وحيدةً بعدما فَقَدت والدها، وهاجرت أمها إلى أستراليا. لكنّ هذه المنظمة فَقَدت التمويل، فعادت دانا إلى البطالة، وفَقَدت أي نشاط تقوم به. تزامن هذا مع فشل علاقتها العاطفية بعد ثلاث سنوات من المساكنة. حالتها شائعة في مجتمع الشباب اللبنانيين: ضياع الأمان والهدف والحلم، والوقوع في الفراغ والكآبة. بالأسود والأبيض، ينفرد بورتريه "ضنا"، كتابة ماري ـ روز أُسطا وإخراجها. إنّه الوحيد الذي يُغيّب اللون، ويلجأ إلى دراماتورجيا الضوء والظلّ التي تخدم الأحوال النفسية للشخصية، وواقعها الأشدّ فداحة وميلانخولية من الآخرين.
ضنا (ضنا مخايل) حفيدة مصمّمة أزياء في العصر الذهبي لبيروت، مختبر الفن والثقافة. تحلم بالسير على خطاها، ونذر حياتها للمسرح ممثلةً، وإنْ اقتضى واقعها المعدم معيشيّاً أنْ تحيا حياة المتشرّدين، فتنام في سيارة عتيقة انتهت إلى مقبرة سيارات، وظلّت مع ذلك مسكناً ليلياً لها. عندما تطرد منها، تركض إلى مبنى مهجور، تُجري فيه، مع فريق مسرحيّ، تمارين عمل جديد لن يولد. تفترش الأرض في المكان البائس والمهجور لتنام. صديقها (عدي طفيلي) يمنّنها بالإيواء والاحتضان، لتنفر منه إثر مشادّة كلامية عنيفة، وتغادر الملاذ المريح لحريتها التامة. مشهد كوميديّ شديد الهجاء والقتامة، يُختَم به البورتريه: الممثلة الطموحة تضطرّ، لتحصيل عيشها، إلى تمثيل دعاية لمنظّف مراحيض، تعيده وتعيده باستمرار، وسط ضحك متصاعد من جمهور العرض الأول على بؤس واقع مذلّ.
تُخيِّم على الأفلام الخمسة ميلانخوليا. ورغم المبرّرات التي لا ينفيها أحد، ربما تكون هناك مبالغة في صبغها بهذا القدر من الضيق والقنوط والتبرّم وانسداد الأفق، إذْ نلمح في الحياة اليومية لهؤلاء الشباب اليائسين والمحبطين قَبَساً من فرح ومرح في أوقات متقطّعة، لا عبوساً مستمرّاً، يجعل "مرمر مكاني" أحاديّ التوجه والمعالجة.
هذه الجدارية السينمائية الحميمة أُنجزت في 35 يوماً تصويراً، مع فريق محدود وإمكانات إنتاجية محدودة جداً، إنْ لم تكن شبه منعدمة، لكنْ بروح عالية من التعاون والتفاني. إلى الكتاب والمخرجين والممثلين والمصوّرين، والمشرف العام على العمل بكامل دقائقه وتفاصيله ويومياته واختياراته السينمائية والجمالية، يُنوَّه أيضاً بالمشتغلين على تسجيل الصوت: تانيا كمون وفراس عناني ومنذر الهاشم وغيدا عكوم وبيتر سعد وعيسى خنجي، وعلى تصميم الصوت ومزجه، وهم محترفون أصحاب خبرة: رائد يونان وهادي دعيبس وفرنسوا يزبك وجان بول جلوان وفيكتور بريس.
يبقى السؤال الأصعب: هل يُعرض "مرمر مكاني" في الصالات ليشاهده الجمهور اللبناني، المعنيّ الأول بفئاته الشبابية تحديداً، أم أنّ دربه الوحيدة الممكنة ستكون المهرجانات السينمائية في العالم، التي ربما تأتيه بتقدير ومكافأة معنويّين، يستحقّهما كاختبار إنتاجيّ مستقلّ وجذّاب وآسر، يستوفي كلّ شروط التعبير السينمائي الخلّاق والمتقن؟