في الجزائر هو بْراهيم الطاير لا عادل إمام

27 مارس 2024
إنّه بْراهيم الطاير في الجزائر (محمد عمر/EPA)
+ الخط -
اظهر الملخص
- عادل إمام، الملقب بـ"براهيم الطاير" في الجزائر، تحول إلى أيقونة ثقافية مهمة، حيث أصبحت أعماله جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية الجزائرية، مما يعكس العلاقة العميقة بين الجمهور الجزائري والفن المصري.
- أفلام ومسرحيات عادل إمام تُعرض بشكل متكرر في الجزائر، مما يؤكد على مكانتها كمصدر للترفيه والضحك، وتعزز من الروابط الثقافية بين البلدين، خاصة في أوقات الفرح والحزن.
- العلاقة بين عادل إمام والجمهور الجزائري تجسد القوة العلاجية للفن والكوميديا، حيث استطاعت أعماله أن توفر ملاذًا للجزائريين خلال الأوقات الصعبة، مما جعله رمزًا للفرح والتفاؤل في الجزائر.

لم يكن عادل إمام، بالنسبة إلى الجزائريين، ممثلاً عابراً على شاشات التلفزة، وفي صالات السينما، وعلى خشبات المسرح. إنّه أكثر من ذلك بكثير. حتّى إنّه لم يكن عادل إمام كما يعرفه الجميع، لأنّه، بالنسبة إليهم، بْراهيم الطاير (يُنطق اسم إبراهيم من دون ألف)، الذي عُرف واشتُهر به، إلى درجة أنّ هذا الاسم أزاح كنيته المدوّنة على وثائقه الرسمية، و"جينيريك" أعماله. بل هناك من يجزم بأنّه اسمه الحقيقي، خاصة من الأجيال الجديدة، التي لا تعرف أسباب إلصاق تلك التسمية به، إذْ تلقّفوها باكراً، وحافظوا عليها إلى الآن، من دون معرفتهم بأنّ بْراهيم الطاير شخصية من مئات الشخصيات الأخرى التي أدّاها في مساره المهني الطويل والحافل.

لم يعرفوا، لأنّها لم تكن مُطلقاً عابرة في نظرهم، بل جزءاً من الذاكرة، وحجة من حجج الزمن الكثيرة، ولوحة كوميدية ملأت قلوبهم بالفرح الغامر. لهذا، لا يزال هو بْراهيم الطاير، مهما كتبت الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلامية. حتّى إنّهم لم يبحثوا ولم يتساءلوا يوماً عن سبب رواج اسم عادل إمام بدل بْراهيم الطاير، وبمقدورهم فعل هذا بالضغط على زر واحد من هواتفهم وحواسيبهم. ربما لأنهم اعتقدوا أنّ تلك التسمية مجرّد كنية. لهذا لم يبحثوا في الموضوع، لأنهم يعرفون الاسم "الحقيقي": بْراهيم الطاير.

الشخصية أرسخ من الممثل

أجريتُ تجربة على شبابٍ من خلفيات وثقافات مختلفة، تراوح أعمارهم بين 20 و35 و56 عاماً، مرتبطة باسمه الحقيقي، فقالوا بلسان واحد: بْراهيم الطاير. أخبرتهم أنّ تلك التسمية مستَمدّة من شخصية أدّاها في مسلسل "أحلام الفتى الطاير" (1978، 14 حلقة، موسم واحد) لمحمد فاضل: يخرج بْراهيم الطاير من السجن، ويعود إلى السرقة مجدّداً، ويُنفّذ عملية ضخمة لتهريب الأموال، ثم يختبئ مع الأموال المهرّبة في مستشفى للاضطرابات العقلية، بالاتفاق مع مديرها، من دون علم أحد آخر. لكن المدير يموت، فيهرب بْراهيم مع آخر من الشرطة والعصابة التي تريد الأموال التي معه.

أخبرتهم أنّ سبب ترسّخ التسمية في أذهانهم، بعد أنْ ورثوها عمّن سبقهم، كامنٌ في قوّة المسلسل، انطلاقاً من المقلب الدرامي الذي عاشه بْراهيم الطاير في المستشفى، ما حتّم عليه مجاراتهم ومجاراة الواقع. لذا، كانت هذه الشخصية استثنائية، انعكس تأثيرها على المُشاهد الجزائري. لكنّ هؤلاء الشباب لم يهتموا بإجابتي، لأنّ إمام بالنسبة إليهم سيبقى بْراهيم الطاير، وهذه حقيقة تاريخية راسخة، لا يمكن إزاحتها من الذاكرة الجماعية الجزائرية.

انعكست السينما المصرية على الثقافة الجزائرية بشكل كبير، خصوصاً في الآداب والمعارف والفنون، كغيرها من البلدان العربية الأخرى. ترسّخ هذا بشكل أقوى بفضل الأعمال التلفزيونية والمسرحية والسينمائية، إذ كانت الأفلام المصرية، أو "الأفلام العربية" بحسب التعبير المتدوال، جزءاً ـ ركيزة أساسية فيها. لهذا، ترسّخ نمط الحياة المصرية في أذهان المشاهدين الجزائريين، وأصبحت تلك الثقافة جزءاً من حياتهم، خصوصاً أنّهم باتوا يعرفون معاني اللهجة المصرية، ويجيدون نطقها.

عندما تعرّف هذا الجمهور إلى عادل إمام، أصبح أقرب إلى تلك الثقافة، وأصبح "المطلوب رقم واحد" في كلّ قاعات السينما المحترفة، وقاعات العرض البسيطة، التي انتشرت في نهاية ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، إلى درجة أنّ إمام استولى على تسمية "فيلم عربي" من البرامج، وأصبح يقال "فيلم بْراهيم الطاير". أصبح الأمر ظاهرة أكثر منه برنامج عروضٍ تتغيّر مع كلّ فيلمٍ جديد. لكنْ، بالنسبة إلى أفلامه وأعماله، لم يكن يسأل المتفرّج عن عام إطلاقها، فكلّ ما يهمّ أنْ تتباعد عروض فيلم عن عروض آخر، إذ لا يمكن لمشاهد "المتسوّل" (1983) لأحمد السبعاوي أنْ يعيد مشاهدته بعد يوم أو يومين. لكنّ هذا ممكن بعد أسبوعين أو شهر، لأنّ من الجيّد إعادة المشاهدة، لحفظ قصته وكلماته، وتردادها شفهياً لمن لم تمنحه الظروف فرصة المشاهدة.

تحوّلت محبة الجمهور الجزائري لعادل إمام، وفي رواية أخرى لبْراهيم الطاير، إلى سيلٍ لا ينتهي، ومَعين لا ينضب من المحبّة. لم يكْتَفوا بأفلامه، القليلة بنظرهم رغم كثرتها، ولا بمسلسلاته المنقطع عنها في مرحلةٍ ما، بل ذهبوا إلى مسرحياته التي اكتشفوها بفضل التلفزيون، لأنّها لم تعرض في الجزائر، وأصبحوا يتناقلون أشرطة الفيديو الخاصة بها، ويُقيمون لها عروضاً جماعية في قاعات عرض بسيطة، تتكوّن من جهاز تلفزيون ومُشغّل فيديو، لأنّهم يؤمنون بأنّ العرض الجماعي يُساهم في زيادة جرعات الضحك. كذلك فإنّهم يعيدون تلك الجُمل والمشاهد المضحكة، ويناقشونها بطريقة غريبة، لأنّ الضحكات لا تنتهي، ودرجة التفاعل معها قوية جداً، خصوصاً مع أفلمة مسرحياته واختصارها ونسخها على أشرطة فيديو.

حضور رغم كلّ شيء

تلك الأعمال معروضة أصلاً على خشبات المسرح، لتوجّهها إلى جمهور الفن الرابع. لكنّها أوجدت طرقاً إضافية، واحدة للتلفزيون وثانية لجمهور الفن السابع. هكذا عاش الجزائريّ لحظات إضافية مع نجمه المفضل، بْراهيم الطاير، خصوصاً مع مسرحية "مدرسة المشاغبين" (تأليف علي سالم، إخراج جلال الشرقاوي)، المعروضة لأول مرة عام 1971. لكنّ الكاميرا خلّدتها في الذاكرة، وأصبح شباب المسرحية ونجومها، عادل إمام ويونس شلبي وعبد الله فرغلي وأحمد زكي وسهير البابلي وغيرهم، أحياء لا يموتون إطلاقاً، في ريعان شبابهم وقوّتهم وجبروتهم الفني. إنّه المعطى نفسه الذي تجسّد في المسرحيات الأخرى.

مسرحياته رافدٌ مهم للمُشاهد الجزائري، الذي عوّض بها عن أفلامٍ له تصله بصعوبة، مُقرصنة أو بنسخٍ رديئة، بسبب توزيع المنتجات الفنية عامة. لكنْ، رغم هذا، استطاع المشاهد الجزائري الوقوف على كلّ "كبيرة وصغيرة" في مسار الفنان الرمز، الذي اقتطع مساحة واسعة من ذاكرته، خصوصاً في فترة "العشرية السوداء" (1991 ـ 2002)، حين طغت أخبار القتل والدم على يومياته بسبب تلك الحرب الأهلية الطاحنة في بلده. لكنّ أعمال عادل إمام كانت المتنفّس الوحيد للجزائريين، وأنستهم، ولو للحظة، تلك الأخبار السوداء، وأدمجتهم مع شخصياته في أفلامٍ مثل "الإرهاب والكباب" (1992) لشريف عرفة، و"الإرهابي" (1994) لنادر جلال، و"طيور الظلام" (1995) لعرفة أيضاً، وقبلها "المتسوّل"، والقائمة طويلة.

لم يكن الجزائري، في تلك الحقبة المظلمة، يسأل عن تاريخ إنتاج فيلم له أو مسرحية. فالمهم أنّ بْراهيم الطاير حاضرٌ فيهما، وبفضلهما سيشحن قلبه الجريح بكمية كبيرة من الضحك، الذي يزيح به حزناً قليلاً.

يصعب تفسير العلاقة القوية، التي جمعت الجمهور الجزائري بعادل امام. لهذا، من العدل القول إنّه ظاهرة، ربما لنْ تتكرّر في هذا الزمن، لأنّ الجمهور الذي أحبه لم يكن ذا توجّه واحد، بل متنوّعاً في الثقافة والعمر والتوجّه والميول. ذهبوا جميعهم إليه، فأخذوا منه فرحاً وحبّاً وسعادة وضحكاً. والضحك ليس عادياً ونعرفه، أو ابتسامة رقيقة متحفّظة، بل قهقهة تُثير دموعاً. هذا رأيته شخصياً على وجوه جزائريين كثيرين، في أثناء مشاهدة أفلامه ومسرحياته. وقفت على ذلك التفاعل "الخرافي" مع كلّ مشهد، وفي كلّ مقلب وجملة وكلمة وموقف له. لذا، من العدل جداً، وإنصافاً للممثل الرمز، يجدر التأكيد أنّه ظاهرة لن تتكرّر، أقلّه حالياً، مثله مثل شارلي شابلن، وغيره من رموز الفن "الخالد" في العالم.

الدليل على ذلك، حبّ الجمهور العربي له، لا الجمهور الجزائري فقط.

المساهمون