- اختار أعماله بعناية فائقة، متمردًا على النمطية ومتنوعًا بين الكوميديا الاجتماعية والدراما، مما جعله "أغلى نجم في مصر" لسنوات طويلة وأسس لعلاقة متينة مع الجمهور والمنتجين.
- استمر في تقديم أعمال ناجحة ومتنوعة بين السينما، المسرح، والتلفزيون، مثل "فرقة ناجي عطا الله" و"العراف"، محافظًا على جماهيريته ومواجهًا التحديات والانتقادات بمسيرة فنية ثرية تُعد شاهدًا على موهبته الاستثنائية.
في مسيرته الفنية كلّها، ظلّت الموهبة التمثيلية لعادل إمام، في الكوميديا والتراجيديا والـ"فَارْس" والأكشن، مُثيرة لجدل كبير. تباين وجهات النظر تراوح بين تأييد كامل وتسليم مُطلق بموهبته، ومُعارضة شديدة، ونفي الموهبة كلّياً. هناك أيضاً، كأمر وسطي، ثناء على موهبته، مع إبداء تحفّظات، إلى تسليم دائم، وإنْ على مضض، بأنّه يمثّل طفرة فارقة، يصعب تكرارها في تاريخ الفن المصري والعربي، لعقودٍ طويلة مقبلة، وأنّ خلف هذه المعجزة رؤية فنية مغايرة، أصابت كثيراً، وأخفقت مراراً.
بداية خانقة سبقت التمرّد
انطلق اسم عادل إمام من دور صغير، لا يزال عالقاً في الأذهان: دسوقي، كاتب المحامي، أمام أحد أهم نجوم الكوميديا في عصره، فؤاد المهندس، في مسرحية "أنا وهو وهي" (1964). نظراً إلى طزاجته كممثل، شكلاً وشخصيةً و"لازمات"، والقبول الذي ناله دوره البسيط هذا، انتبهت إليه السينما، فتمّ "تصديره" سريعاً إلى ماكينة الأفلام الشرهة، المتعطّشة إلى كلّ ما يستميل الجمهور. ثم تمّ تسكين الوافد الجديد، لسنوات، في دور "السَنِّيد"، أو صاحب الشخصية الثانية أو الثالثة، أو حتّى الرابعة المُساعِدة، الخادمة لأبطالٍ أقدم منه مهنياً، أصحاب أسماء وتاريخ ومجد وجماهيرية.
بذكاء فني، ودهاء حربائيّ، وربما تحت ضغط الحاجة أو الوجود، تقبّل إمام، بنهمٍ، ما كان يُعرض عليه، مهما كانت مساحته أو سطحيّته أو سماجته أو تفاهته، فتكرّس اسمه بين شخصيات الشرير، والموظّف المغلوب على أمره، وصديق الطبقة الراقية، والنصّاب، والجار، والزميل خفيف الدم، وغيرها من أدوار نمطية جداً في تاريخ السينما المصرية، لا تختلف كثيراً إلا باختلاف من أدّوها، على تباين الأسماء والموهبة.
لذا، ظلّ عادل إمام، سينمائياً لا مسرحياً، يدور لسنوات حول نفسه، في دوّامة امتصاص المواهب ووأدها، كعمالقة آخرين سابقين. كان يُمكن ألا يخرج منها أبداً، ويكون مصيره مثلهم، لولا انتباهه إلى الأمر، فتمرّد على نفسه، وعلى المنتجين، بعد طول إذعان، منتظراً فرصة حقيقية، لم تُتح له بالشكل المتوافق ورؤيته. ربما كان هناك "ترتيب للأوراق"، مادياً وأسرياً. لكنْ، ما إنْ حانت الفرصة حتى انتهزها، كأعظم انتهازيّ.
في منتصف سبعينيات القرن الـ20، لعقدٍ لاحق تقريباً، بدأ عادل إمام يُحسن اختيار أعماله بعض الشيء، مُحقّقاً توازناً بين الكوميديا الاجتماعية الهادفة، والكوميديا الهزلية الخالصة، غير الهادفة أو المُبتذلة، والأفلام الدرامية الجادّة فعلاً، المُشتبكة مع قضايا آنية مُلحّة. تشكيلة أوصلته، آنذاك، إلى ذورة التحقّق، وشكّلت انطلاق جماهيريته العربية الكاسحة أيضاً، خاصة مع انتشار الفيديو، وزيادة الطلب عليه بشكل جنوني. وهذا، بعد ترسيخ المسرح اسمَه ونجوميّته الطافحة، عقب النجاح الساحق لـ"شاهد ما شافش حاجة" (1976) لهاني مطاوع. بفضلها، باتت تُمنح له أدوار بطولة أولى أو ثانية، فكانت تلك المرحلة شديدة التباين، من تفاهة خالصة إلى معقول ومقبول، ومُبشِّر أيضاً.
منها، كان التمهيد لانطلاقته مع "احنا بتوع الأتوبيس" لحسين كمال، و"رجب فوق صفيح ساخن" لأحمد فؤاد، وكلاهما أُنتجا عام 1979، و"الإنسان يعيش مرة واحدة" (1981) لسيمون صالح. حينها، "تَكالب" المنتجون عليه وعلى اسمه، رغم مطالبته برفع أجره. المُثير أكثر أنّه، إضافة إلى نجاحاته هذه، حقّق نجاحاً كبيراً في المسلسلين المشهورين: "أحلام الفتى الطائر" (1978) لمحمد فاضل، ثم "دموع في عيون وقحة" (1980) ليحيى العلمي.
كما علق المسلسلان في ذاكرة الجمهور، ترسّخت أعمال له، كـ"المشبوه" (1981) لسمير سيف، واعتُبرت قصة ماهر وبطة إحدى أجمل قصص الحب وأعمقها وأصدقها في السينما المصرية، إضافة إلى أنّ إمام كان في أفضل حالاته التمثيلية، بتوظيفه ملكاته المختلفة خير توظيف، من دون زيادة أو افتعال. و"الحريف" (1983) لمحمد خان، وأنفاسه اللاهثة التي ظلّ صداها يتردّد في صالات السينما، وفي الأذهان، ربما إلى هذه اللحظة. هناك أيضاً "الأفوكاتو" (1983) لرأفت الميهي، والمعركة التي انتقلت إلى المحاكم.
تنويعات متناقضة
رغم أنّ هذه الأعمال، لو قدّمها ممثل آخر، لكانت تكفيه وتفيض ليصنع تاريخاً، إلا أنّ عادل إمام لم يكتف. فبفضل موهبته المُختَلف عليها، وتفاوت مستويات أعماله، والتعبيرات التي باتت محفوظة للوجه ولغة الجسد، و"لازماته" و"قفشاته" و"نكاته" الممجوجة لفرط تكرارها، وإدراكه جيداً أنّ أيّ فنان يحمل في ذاته عوامل البقاء أو الفناء، وأنّه بات قريباً من عوامل فناء لا بقاء فنّه، لم يخشَ التجريب، ولم يخف من المغامرة وكسر الأنماط والقوالب التي قدّمها، في الشخصيات والأنواع السينمائية والتلفزيونية والمسرحية.
هذه من أهم الأمور الفارقة المحسوبة له في مسيرته. من هنا، جاءت التنويعات غير المحدودة في الشخصيات والأعمال. فبدايةً من منتصف الثمانينيات الفائتة، قدّم أكثر من عمل مدهش، كـ"الإنس والجن" (1985) لمحمد راضي، و"الهلفوت" (1985) لسمير سيف، و"حتى لا يطير الدخان" (1984) لأحمد يحيى، و"كراكون في الشارع" (1986) ليحيى أيضاً، و"النمر والأنثى" (1987) لسيف، و"سلام يا صاحبي" (1987) لنادر جلال. وأفلام أكشن، كـ"جزيرة الشيطان" (1990) لجلال، و"مُسجل خطر" (1991) لسيف، و"شمس الزناتي" (1991) لسيف أيضاً. أفلام كهذه جعلته "أغلى نجم في مصر"، حتى سنوات قريبة جداً، ليس عن شراهةٍ للمال، بقدر ثقته في نفسه أولاً، ورغبته الذكية في تقليل عدد سيناريوهات الأفلام المتدفقة عليه ثانياً، بغية اختيار الأفضل والأمثل والأنسب من جهة، وانتقاء المنتجين الذين سيعملون فعلاً على إرضاء رغباته وتلبيتها، مهما كانت، من جهة أخرى.
من هنا، جاءت سلسلة أفلامه الناجحة والمغايرة مع وحيد حامد وشريف عرفة: "الإرهاب والكباب" (1992)، و"المنسي" (1993)، و"طيور الظلام" (1995)؛ مع مداعبته، بين حين وآخر، شبّاك التذاكر، بالعودة إلى الخلطة المضمونة، كفيلمي "بخيت وعديلة" (1995 و1998) لنادر جلال، وغيرهما. ثم، مرحلة المضي قدماً، لكنْ بقوة الدفع فحسب، أو بالاستناد إلى الرصيد التاريخي فقط، فمُصارعة البقاء، وصولا إلى "بوبوس" (2009) لوائل إحسان، السيئ للغاية، باستثناء "زهايمر" (2010) لعمرو عرفة، الجيّد فعلياً. هذان الفيلمان آخر ما قدّمه إمام سينمائياً، مُركّزاً بعدها على المسلسلات، لأسبابٍ أعلنها بنفسه صراحة، تتمثّل في البدل المادي الكبير مُقارنة بالسينما، مع "فرقة ناجي عطا الله" (2012) و"العراف" (2013) وكلاهما لرامي إمام، والعمل مع مؤلّفين ومخرجين وممثلين جدد، وتحقيق بعض النجاح، بفضل التشكيلة ـ الخلطة المعتادة. لكنْ، ما تلاها لم ينجح بالقدر نفسه، وسحب من رصيده وتاريخه، كـ"صاحب السعادة" (2014)، وأخيراً "فالانتينو" (2020)، لرامي إمام أيضاً.
لا شكّ أنّ التجربة الثرية لعادل إمام، المُمتدة عقوداً عدّة، بما لها وما عليها، يصعب، أو ربما يستحيل اختزالها ومُقاربتها وإحاطتها في مقالةٍ. ولفرط ما كُتب عنها، من غثّ وسمين، وصادق وكاذب، وناقد ومغرض، يتساءل المرء: "ما الجديد الذي يمكن كتابته، ويمثّل إضافة فارقة، جدّية وأصلية، إلى أطنان ما كُتب وسيُكتب؟". في حالة عادل إمام، سينمائياً على الأقلّ، مصرياً وعربياً، نحن إزاء حالة نادرة للغاية، يستحيل تكرارها في الأصعدة الفنية كلّها، أقلّه في المدى القريب. حالة تفرض مناقشة ظواهر أخرى غير فنية، راكمها في مسيرته، بوعي أو بفعل ظروف.
مثلاً: سواء اتفقنا أو اختلفنا، فنياً ونقدياً، مع ما قدّمه، فإنّ "حسبة" النجاح الجماهيري وشبّاك التذاكر فرضت نفسها، دائماً، وبقوّة، إذْ يستحيل إغفالها أو إسقاطها مهما كانت زاوية الاختلاف، التي نُقيّم الأمور عبرها، وإنْ بلغ الشطط وصف ظاهرته بأنها مصنوعة كلّياً، بفعل السلطة وإعلامها، أو بسبب قوة سوق وتوزيع ومنتجين، رسّختها وكرّستها، لتحقيق أقصى استفادة مالية منها، أو سطوة جمهور فرض ذوقه ومزاجه وثقافته وطبقته.
نجاح متواصل كهذا، واستمرارية وجماهيرية، في العالم العربي، لأكثر من نصف قرن، وفي وسائط مختلفة، دافعٌ إلى دراسة وتحليل أسباب وعوامل صموده، في ظلّ بيئات متباينة ومتغيّرة، فنياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وفي ظلّ تقلّبات عاصفة مرّت على المنطقة، من مشاحنات وحروب وثورات مختلفة، تفاعل معها عادل إمام بطرقٍ، تُحسَب عليه أحياناً. مع ذلك، ورغم كلّ شيء، صمد في وجه التيارات العاتية، ولم يكتفِ بأنْ يكون مجرّد "ظاهرة عابرة" في تاريخ السينما المصرية والعربية، وأبى حَصْر نفسه في أنْ يكون نجماً للحرفيّين والعمّال والموظفين، أو ابناً للطبقات الشعبية الكادحة والبسيطة. كما أنّه لم يغرق في الكوميديا المبتذلة والمُسفّة والفارغة من كلّ مضمون، وهرب من مقولة أنّ أفلامه تروّج للحلول الفردية، وتدعو إلى الخلاص والانتقام، وأنّها بوقٌ للسلطة لتلميع سمعتها. فكيف تفلّت من كلّ هذا، وبنجاح ساحق؟
سينما جماهيرية لا تجارية
كما ينبغي دراسة أسباب استمراريته مسرحياً لسنوات، وبنجاح كاسح، إلى درجة عرض مسرحيات له في دور عرض سينمائية. وهذه ظاهرة أخرى، جديدة وغريبة وغير مسبوقة. هناك أجره أيضاً، كممثل سينمائي ومسرحي وتلفزيوني، في ضوء المبالغ المدفوعة إلى أبناء جيله، وفي ظلّ التكلفة الإنتاجية الإجمالية لأفلامه، وأفلام السينما المصرية، وقياساً إلى صناعة السينما المصرية عامة، وتأثير شبّاك التذاكر ومردوده، سنة تلو أخرى. كذلك، كيف أنّ أعماله فرضت تغيير النظام القائم في السينما المصرية لعقود، إذْ كان الفيلم يعرض أسبوعاً في صالة أو اثنتين. معه، اختلف الأمر جذرياً، فازدادت الصالات العارضة أفلامه. كذلك امتدت أسابيع العرض، فبلغت أرقاماً قياسية للفيلم الواحد.
لا يقتصر الأمر على كيفية محافظة عادل إمام على نجاحه وتأثيره الطاغيين لعقود، رغم عدم ظهوره في لقاءات وحوارات تلفزيونية وصحافية، بل أيضاً رصد التغييرات والتطوّرات والتبدّلات وتحليلها، تلك الطارئة على أحوال المجتمع المصري (والمجتمعات العربية)، وطبائعه وأمزجته وأذواقه وثقافته ووعيه، جرّاء أعماله. الأكثر إلحاحاً مناقشة مفهوم "السينما الجماهيرية" وتحليلها، الذي ينطبق أكثر على عادل إمام من مفهوم "السينما التجارية"، وتشريح طبيعة الكوميديا التي قدّمها، مع طرح سؤال: هل تغيّرت وتطوّرت، أم تدهورت، قياساً إلى ما قدّمه نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وفؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي، مثلاً؟ بمقارنتها مع ما سُمِّيَ بـ"كوميديا ـ أفلام المُضحكين الجُدد" في السينما المصرية، كمحمد هنيدي ومحمد سعد وعلاء ولي الدين، وغيرهم. وأيضاً: كيف صمدت أسطورته أمام أفلامهم، ولم تنتقص من جماهيريته.
الجدير بدراسته بعض الشيء أيضاً، أو مناقشته وتفحّصه، أسباب كونه أكثر ممثل في العالم العربي أطلقت عليه شائعات وأكاذيب واتهامات، وإن كان لبعضها دلالات واقعية، أبسطها نعته بالديكتاتور والطاغية والمستبدّ والمتعجرف، ومُسَخِّر الكتّاب والمؤلفين، والنجم المُكلف. أو بكونه حقوداً وغيوراً وحادّاً ومُتكبّراً، لا يحبّ وجود غيره في الساحة، وتكبّره على الإعلام والإعلاميين، وندرة ظهوره التلفزيوني. شائعات أخرى عن زواجات وهمية غريبة، وتعرّضه للقتل، وإصابته بالأيدز. أو أنّه موجود في قوائم الاغتيالات الإرهابية. وانتهاء بشائعات وفاته، المتجدّدة كلّ عام تقريباً.
كذلك، اشتباكه مع السلطات أحياناً، كعلاقته مع حبيب العادلي، وزير الداخلية المصري (1997 ـ 2011)، واستعانته بالرئيس السابق حسني مبارك، واتّخاذ مواقف نقيضة لها، وكيف أنّ له مواقف توصف بالانتهازية السياسية، وموالاة السلطة وخدمتها، والحفاظ، أحياناً، على قدر كبير من التوازن والانتماء إلى الفن وناسه في مقابل السلطة. أو مُجانبة المثقفين والسياسيين والأحزاب تارة، والالتصاق بهم والتمسّح فيهم والانتماء إليهم تارة أخرى. الشيء نفسه ينطبق على التكريمات، مصرياً وعربياً، وعلاقته بالنقاد والصحافيين، من شدّ وجذب وعداء وهجوم وقطيعة، وأشهرها مع الصحافي إبراهيم سعدة. هناك أيضاً رفضه تقديم قصصه سينمائياً، ثم تسخير سعدة مطبوعات مؤسّسة "أخبار اليوم"، باختلافها، ضده؛ ومهاجمة عادل حمودة له، ومن خلفه مؤسّسة "روز اليوسف"؛ وخطأه الفظيع مع الناقدة خيرية البشلاوي، رغم اعتذاره منها لاحقاً.