"سيناريو جاهز" في غزة: صورة مُقرّبة لما يُمكن أن يكون

09 ديسمبر 2023
نازحون من خانيونس إلى رفح (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
+ الخط -

حين توقّفت آلة القصف العشوائي، التي سلّطها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة في فترة الهدنة، انزاح الستار عن مخلّفات الدمار الكبير التي تركتها تلك القنابل الشريرة والصواريخ الخبيثة، المُصنَّع معظمها في مصانع أميركية، فرأى العالم، بعيون مفتوحة على آخرها، صُوَراً سوريالية لم يقدر على رسمها أكثر الرسّامين موهبة وخيالاً. أكوامٌ كبيرة من البنايات المُهدّمة، وطبقات الأبراج والعمارات الملتصقة على بعضها، بعدما سُحق ما كان بينها وفيها، إضافةً إلى حُفر عملاقة، أزاحت المساكن التي كانت عليها، وطُرق تغيّرت مساراتها. أي أنّ الشرّ، المختبئ في تلك الصواريخ والقنابل، انعكس على البشر والشجر والحجر، وعلى باطن الأرض وظاهرها، فتغيّرت الجغرافيا والتاريخ وسردية الإنسانية بشكل عام.

شاهدتُ، كما شاهد العالم أجمع، تلك المناظر الموحشة، ومشاهد الجحيم الموُغلة في الكره، فعصفت بمشاعري، وأدخلتني في حالة بين الواقع والخيال، وقربّتني من زاوية الكآبة. لكنّ العقل انتصر، وتغلّب على تلك الأحاسيس القاتلة. فقط، ترك فيّ ما يجعلني أستمرّ، وأفهم الوضع، وأعي ما يدور حولي، لأدوّن وأعبّر عن جزءٍ من تلك الفظاعات المرتكبة. تمنّيت حينها لو كنتُ مخرجاً سينمائياً، لأحبس المناظر الموحشة لقطاع غزّة في فيلمٍ روائي، وأجعل الأجيال الحالية والمقبلة تقف عليها وعلى ما ارتُكب يوماً في حقّ الإنسان.

لن أحتاج، في مشروع فيلمي الروائي، إلى سيناريو أو ديكور مُركّب، ولا إلى سفريات عدّة. لن أستعمل خدعاً بصرية وذكاءً اصطناعياً. لن أجلب آليات هدم وبناء، ولن أحتاج إلى ورش عمل ومواقع مختلفة وفريق متكامل. لن أستعين بمونتير متمرّس، أُثقل عليه بتوجيهات فارغة، ولا إلى مُساعد مخرج يُتعبني بتذاكيه واستعراضاته. لن أحتاج إلى مبلغ مالي كبير يجعلني أتذلّل لمنتج أو مانح، يُرهقني بشروطه الأيديولوجية، ويفرض صديقته الممثلة غير الموهوبة لتكون في فريق التمثيل.

لن أحتاج إلى كلّ تلك الأشياء والعناصر والمنطلقات، ليس لأنّي من أنصار "الموجة الجديدة"، ولا لالتزامي "الواقعية الإيطالية"، ولا لكوني مخرجاً رائياً. فقط، لأنّ هول الواقع في قطاع غزّة تجاوز الخيال، والديكور الجاهز تخطى المبالغة والتخطيطات. إذْ يُمكن الإحالة، من خلال "ديكور" غزّة، إلى تشكيل صورة متماثلة ومتجانسة مع حفر الجحيم. كما أنّ قصص الناجين والضحايا والأموات وشهود المجازر، التي سمعناها وقرأنا عنها ووقفنا عليها، يُمكن أنْ تُشكّل خزانة كبيرة من الكتب، كلّ واحدة مشبعة بعناصر الإثارة والتشويق، وكلّ ما يقتضيه مبدأ القصّ والحكي والمعالجة في السينما.

عليّ فقط أنْ أضع يدي على إحدى تلك القصص، وأبدأ العمل عليها مباشرة، لأنّ السيناريو على عمومه جاهز، لا يحتاج إلى تدوين أو تقطيع أو صقل. حتى إنْ أردنا تدوينه، وتأثيثه بقصّة مأساوية من نسج الخيال، فمؤكّد أنّ هناك ما يعكسها ويشبهها الى حدّ ما في الواقع الغزّي. إذا توفّرت الآليات الضرورية لأخرج هذا الفيلم الروائي الطويل، لا بُدّ أنْ أضع في الحسبان مرتكزات أساسية تكون خريطة طريق لإنجازه. أهمّها ألا تكون رسالة الفيلم مباشرة. سأجاهد في أنْ أزيح أي خطابية فيه، وربما سيكون بلا حوار، إلا ما تقتضيه الضرورة القصوى.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في المقابل، سأركّز على خلق لغة سينمائية من خلال الصورة، لإيماني الكبير بأنّ السينما صورة قبل أي شيء آخر. سأنفق جهداً وفكراً وتخطيطاً، لأعدّ مُقدّمة سينمائية مهمّة وفاتنة ومثيرة، يُمكنها أنْ تعكس متن العمل عامة، أو سأستعملها لأثير اهتمام المُتلقّي في أي مكان في العالم، لأنّي إذا نجحتُ في صنع مُقدّمة أو افتتاحية جيدة ومقنعة، سأتقدّم كثيراً في المشروع السينمائي. ربما تكون هناك أكثر من مُقدّمة، مثلاً 3 مُقدّمات، أوزّعها على 3 فئات من المُشاهدين بخلفيات ثقافية وجنسية ودينية مختلفة، وأضع آلية تصويت معيّنة، أختار بفضلها المُقدّمة المناسبة، التي تخدم الفيلم.

هذه مُقدّمة تشغل تفكيري حالياً، وسأركّز عليها بشكل استثنائي: "صورة بانورامية شاملة، تُظهر قطاع غزّة، مُلتَقَطة بكاميرا مثبّتة على (درون)، من الأعلى، تُظهر حجم الدمار الكبير، ثم تنزل إلى الأرض رويداً رويداً، وتركّز على طفل لا تظهر ملامحه. بعدها، لقطة (كلوز آب) لقدميه الحافيتين، تنتقلان بحرص وبطء شديدين فوق الخراب. في لحظةٍ، تدوس إحدى قدميه على مسمار موصول على خشبة، يدخل في قدمه من تحت إلى فوق، فيتوقّف عن الحركة. تتنقل الكاميرا إلى وجهه المكسوّ بالغبار. يضع يده على فمه، كي لا يصيح من الألم. احمرّت عيناه، وكادتا تخرجان من جمجمته. ينظر إلى قدمه، فيرى دماء، والمسمار البارز، فيكظم آلامه كي لا يصرخ فيسمعه العدوّ. بعدها، ينتقل بصره إلى زاويةٍ في غرفة البيت المهدّم. يرى جثة غير واضحة المعالم تنهشها الكلاب. ينزع يده عن فمه، وينسى ألم قدمه كأنّه لم يكن. يتصبّب العرق من وجهه الطفولي. يرى اليد اليمنى للجثة، التي تمسك يداً صغيرة لجثة تحت الركام. نزع المسمار من قدمه، وذهب صوبهما. هربت الكلاب، وأفواهها ملطّخة بالدماء. أمعن الطفلُ النظر جيّداً في ساعةِ اليد، ثم في الدبّ في اليد الأخرى. جثى على ركبته، وأمسك بيده يد الطفلة، واليد الأخرى، وبدأ يبكي بصوتٍ مرتفع، كأنّه تعمّد رفع صوته ليقصف، ويجتمع بعائلته تحت التراب، مجدّداً".

سينما ودراما
التحديثات الحية

يتلخّص الفيلم في قصّة طفل (12 عاماً) مُتعلّق جداً بوالده، خاصة بعد استشهاد والدته بقصفٍ على غزّة في عدوان سابق. إضافة إلى حبّه الكبير لأخته (6 أعوام). في عيد ميلاد الأب، قدّم له هدية: ساعة يد. بعد الاحتفال، ذهب الطفل إلى بيت جدّه في جنوبي قطاع غزّة. هناك، اندلعت الحرب، وانقطع الاتصال كلّياً بوالده وأخته. لذا، عندما بدأت الهدنة، هرب من بيت جدّه، للذهاب إلى الشمال، بحثاً عن أسرته الصغيرة. في الرحلة التي دامت أياماً، حصلت معه أشياء كثيرة رهيبة، منها محاولة قتله من محتلّ إسرائيلي، يمنع العودة من الجنوب إلى الشمال، ثمّ أنّ فترة الهدنة انتهت، وتجدّد القصف.

في تلك المرحلة، احترقت طفولته. بوقوفه على الدمار الهائل، والصُوَر المأساوية، وانتشار الجثث، إلى درجة أنّه لم يعرف بيته من شدّة الدمار الهائل، يرى العالم كلّ هذا بعينيّ ذاك الطفل البريء.

هذه صورة مُقرّبة لما يُمكن أن يكون عليه هذا الفيلم الذي يُفترض بعنوانه أنْ يكون "سيناريو جاهز"، إذْ سينتصر لقصص الأطفال، ويروي مآسيهم وأحلامهم وكوابيسهم المتعدّدة، خاصة أنّهم أكثر ضحايا هذه الإبادة الجماعية. كما أنّ الفيلم سيعتمد، بمجمله، على المناظر الخارجية التي تُظهر حجم الدمار، ليكون هذا الجزء ركيزة أساسية، انطلاقاً من معادلة "استخراج الجمال من القبح"، وبالتالي سيوثّق نكبةً أخرى من نكبات الفلسطينيين في التاريخ، مؤرشفاً جرائم الاحتلال ونازيّته.

المساهمون