كيف يمكن للكاميرا أن تواجه فداحة احتلال غاشم؟

09 ديسمبر 2023
المدن مفتاح للسينما لأنّها مُختبرٍ بصريّ حقيقي (علي جاد الله/ الأناضول)
+ الخط -

الإجابة عن سؤال: "لو أتيحت لك إمكانية كتابة عملٍ فنّي حول غزّة، ما الموضوع الذي ستختاره للعمل عليه، والطريقة التي بها ستكتب، والمُرتكزات الفكرية التي ستظلّ بوهجها تُظلّل سيرة الكاتب في علاقته بالكتابة؟"، تُثير بُعداً مُركّباً، لا علاقة له بما يقع في غزّة الآن، أو في مكان آخر في العالم، بل بقُدرات الكاتب والفنان والمخرج على التعبير عن الجُرح في لحظات العنف والألم والتشظّي التي تطبعنا تجاه الآخر. ناهيك عن شروطٍ موضوعية وتاريخية، تُتيح لهم كتابة عمل فنّي قويّ، يجعل من المدينة وجراحها مُنطلقاً للتفكير.

في هذه الحالة، أجزم أنّ المرجعية السياسية للكاتب ستقوده إلى إنجاز عملٍ فنّي مُؤثّر بموضوعه، وصارخ بأسلوبه، ومُخيف بما يقترحه من صُوَرٍ تُدين فداحة الاحتلال وخيباته. المرجعية الإيديولوجية تُساهم، إلى حدّ كبير، في التأثير على مسار كتابة الفيلم. لذا، فإنّ أعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، التي كانت صُوَرها إيديولوجية، تتبنّى فكراً مُعيّناً، به تُدافع عن أفكارها ومعتقداتها.

الحقيقة أنّ أمراً كهذا يُعتَبر عامل جذب بالنسبة إلى مُتفرّج متعطّش، بقوّة، إلى أفلام كهذه، تدين الصورةُ فيها ومُتخيّلُها الواقعَ وتصدّعاته. طريقة التعامل مع غزّة، كواقع وذاكرة وتاريخ ومدينة وفضاء، تُثير تساؤلات معرفية كثيرة، قبل أنْ تكون سينمائية وجمالية.

كلّ هذا في وقتٍ تقول فيه مدرسة الحوليات (الأنال)، مع مؤرّخين كبار أمثال لوسيان فيبر ومارك بلوك وفرناند بروديل، إنّ التعامل مع الحدث التاريخي، على مستوى التوثيق، يحتاج إلى مرور أكثر من 50 سنة لتحقيق نظرة علمية تجاه الحدث التاريخي. يأتي هذا القول عند بروديل انطلاقاً ممّا سمّاه، في مشروعه الفكري، بـ"المدّة الطويلة"، أيْ أنّ الحدث التاريخي ينبغي ألّا يُنظر إليه في آنيّته، بل من خلال ما يتركه من أثر عميق في سيرورة الأحداث التاريخية، التي تطبع بلداً ما. بهذا المعنى، تناوُلُ أحداث غزّة، من الناحية المعرفية ـ رغم أنّ للسينما مفهومها الخاصّ، بل الوسيلة الوحيدة أمام سيطرة العنف والتنكيل ـ يقتنص لحظاتٍ دقيقة من الواقع، ويجعلها تعتلي عرش الصورة.

في هذه الحالة، ما الذي يقوله المخرج عن غزّة؟ هل يحقّ للسينمائيّ توثيق الخراب الذي تعيشه المدينة منذ أسابيع، بينما يقول المؤرّخ الفرنسيّ مارك فيرو إنّ السينما تُشبه التاريخ، من ناحية إنتاج الأفكار والمعارف؟

كيف يُمكن للمخرج، عربياً أو غربياً، كتابة فيلمٍ عن غزّة، يُراعي كافة الشروط المعرفية والتاريخية والجماليّة؟ هل يحقّ له الخروج عن الأنساق المعرفية الكبرى، أمام تداعي المعارف والقيم والأخلاق، وتكاثر تنانين السُلطة، وصنّاع التطبيع، وقتلة الأطفال؟ كيف تستطيع غزّة أنْ تُواجه السينما، بل كيف يُمكن للكاميرا أنْ تُواجه فداحة احتلال غاشم؟ على أيّ أساس (معرفي، أخلاقي، إنساني، فني) ينبغي التعامل مع ما تعيشه غزة؟ إلى أيّ حد تستطيع السينما، بكلّ ما تتوفّر عليه من إمكاناتٍ بصريّة، التأثير في مجريات الأحداث السياسيّة، وتُحوّلها إلى وثيقة بصرية، شاهدة على جُرح المدينة وأوجاعها؟

أعتقد أنّ هناك منطلقات كثيرة قادرة على تشكيل العمل السينمائي، بعضها مرتبط بالموضوع وطريقة "معالجته"، ولبعضها الآخر صلة بكيفية التفكير في الأحداث وتصويرها، في آن واحد. المدن مفتاح للسينما الحقيقية، لأنّها مُختبرٍ بصريّ حقيقي ومفيد للسينما ومتخيّلها. في حالة غزّة، يُصبح الوثائقيُّ النوعَ الفيلمي الأقدر على التوثيق، وتصوير ما تعيشه المدينة من حزن وقلق. تستطيع الكاميرا، بكل شغبها، أنْ تدخل بيوت الناس، وتُوثّق شهاداتهم وآراءهم تجاه الاحتلال الإسرائيلي. بهذه الطريقة، تغدو الكاميرا صديقة للأجساد، لكونها الوسيلة الأقوى والأكثر فتكاً للاحتلال الإسرائيلي، لتمريغ صورته بالأرض، عبر ما تنتجه الكاميرا من صُوَرٍ تصل إلى المؤسّسات والبيوت والمقاهي والساحات، عما تقوم به إسرائيل من جرائم أمام العالم.

كلّ هذا مع ضرورة فرض ما ينتجه الوثائقي من صُوَر، حتّى لا يُصبح أشبه بربورتاج صحافي عابر، عن أحوال غزّة. مخرج الوثائقي الحقيقي يُسجّل الأحداث، ويأخذ الشهادات، ويُصوّر المَشاهد واللقطات من عين المكان، ثم يختلي للقيام بعملية فرزٍ للصُوَر واللقطات. إنّها العملية الأصعب بالنسبة إلى مخرج، لأنّها تُدخله في نوعٍ من التفكير والتأمّل إزاء هذه الصُوَر، وما يُريد قوله عبرها، وبأيّ لغةٍ سينمائية سيحكي، وعلى أي خيط سردٍ سيعزف الفيلم. هذا يعني "الكتابة بالصُوَر"، التي يغدو فيها المونتاج يداً سحرية، تصنع مباهج العمل السينمائي، وتفتحه على مُجمل تحوّلات المدينة وأوجاعها.

يُحبّ المؤرّخون المعاصرون الغربيون التعامل مع هذا النوع من الأفلام، لأنّهم يؤمنون بأهميتها في التأريخ، ويعتبرونها وثائق بصريّة تُسعفهم في التوثيق. بينما يُفضّل المؤرّخون العرب التعامل مع الوثيقة التاريخية المادية، بحسب مفاهيم "المدرسة المنهجية" مع لانغوا وسينيوبوس. وفق هذا المعطى، ربما تتحوّل الأفلام الوثائقية (أو التسجيلية) إلى معطى فيزيقي، قادرٍ على أنْ يمُدّنا بمعلومة أو وضعية أو تشريح لخطاب. إنّها، بمعنى ما، وقائع تتعامل معها الكاميرا كحقائق، ينبغي الانطلاق منها بالنسبة إلى المؤرّخ، للحديث عن الجرائم الإسرائيلية بحقّ فلسطين وتاريخها وذاكرتها.

أمّا الفيلم الروائي، فماكرٌ بطبعه، وزئبقيّ ومُتحوّل في الزمان والمكان. لا توجد قاعدة في السينما. فما نعتقد أنّه حقيقة، ربما يأتي مخرجٌ معاصر ويهدمه. بل إنّ تاريخ السينما تاريخ أشكال. فالتجارب الناجحة تبقى في الذاكرة والوجدان لا لأنّها تطرح، فقط، موضوعاً قوياً، أو كتابة أصيلة، يُثير وقعهما ألماً وحزناً، أو نزوة عابرة في المناطق اليباب. يبرز الشكل باعتباره سرّ السينما وفتنتها.

لذا، فإنّ أيّ فيلمٍ يُبحث له عن موقع قدم في أحداث غزّة، ينبغي أنْ يأتي بجديدٍ يُعوَّل عليه جمالياً. أقول جمالياً، وليس سينمائياً، لأنّ أيّ مخرج يعرف أصول الكتابة والتفكير والتصوير، له القُدرة على إنتاج عمل سينمائي. في حين يبقى الجمال الفردوس المشتهى. لذا، فإنّ وسيلة الانفلات بالنسبة إلى المخرج النزوع إلى الخيال. وهذا الأخير يُعتَبر شرطاً أساسياً ومؤسّساً للعمل السينمائي، حتّى لو كان وثائقياً.

المساهمون